لازالت أطروحات غوستاف لوبون، أو على الأقل معظمها، صالحة بعد زهاء قرنين من الزمن لتفسير بعض التنظيمات التي أطلقت على نفسها نقابات عمالية أو نقابات مساندة لنضال الطبقة العاملة. لازالت نظرية العرق و العصبية التنظيمية تفرض نفسها هاهنا حتى بعد أفولها في البنى الاجتماعية و الاقتصادية التي أنتجتها، لازالت شريحة واسعة إن لم نقل كل الطبقة العاملة ترزخ تحت وطأة التعصب للتنظيم بغض النظر عن جدواه رغم مروره من المحك، لازال ” المريدون ” و ما أكثرهم، يؤمنون و يقدسون الأشخاص على رأس التنظيمات و يخضعون لهم كليا مهما كانت أفكارهم و توجهاتهم، الشخص هو التنظيم و التنظيم هو الشخص، اختزال لا واعي للتنظيمات في ” شيوخ ” مقدسين لا سبيل إلى نقدهم فما بالك بمخالفة نهجهم. الانتماء للتنظيم و الدفاع عنه باستماتة غالبا ما يكون بسبب الاندفاع العاطفي أو القرابة إلى الشخص أو الأشخاص الذين يمثلونه محليا/ إقليميا أو جهويا، لكنه مجرد استسلام و يأس و نقص حيلة بالنسبة لما هو وطني، و فوق الإدراك العاطفي و صلة القرابة. لا حرج في السقوط في المتناقضات النضالية و النفسية في سبيل الولاء للتنظيم، عقدة من نوع خاص مستعصية عن التفسير في سيكولوجيا المناضل المنتهز الخائف. الضمير من جهة حرصا على الحق الكوني العام لكل البشر العاملين و الولاء من جهة ثانية حرصا على مصالح شخصية ضيقة قد تأتي و قد لا تأتي. هذا الخيط الرفيع من الأمل الموهوم في مصلحة مرتقبة وحده القادر على شد المناضل إلى أشخاص التنظيم، و ليس إلى التنظيم في ذاته، وحده يفسر حالة الانفصام و الوعي الممزق الذي يعيشه المناضل المنقب حاليا في ظل الوضع المتسم بتغول النظام و قوة الإدارة التي صارت ”بعبعا” تستعصي مواجهته و يستحسن التزلف إليه. صدق من قال يوما بأن ” التعليم بدأ يقتات من برازه” لكن صدقه كان سيكتمل لو عمم المسألة على باقي القطاعات ” بدأ المجتمع عموما يقتات من برازه”، سنوات فقط بعد الاستقلال كانت كافية للنخبة العميلة التي عوضت حكم المستعمر لتجعل المجتمع يدخل في دائرة انتاج و إعادة انتاج ” برازه” من الجهل و التيه بعد دفعه لهضمه تماما. فإذا ما استثنينا نخبة السبعينات التي ارتوت قليلا من منابع الوعي الغربي و نسغ النضال الصادق، فإن الخلف بعدها قد أضاعوا الطريق و ركنوا لمد النظام و سياسته الدافعة لإعادة انتاج الوعي الجاهل الزائف و المشبع بروح الخوف و الانتهازية. ما نعيشه اليوم ليس مستغربا و لا يجب أن يكون كذلك لأنه نتيجة عادية/ حتمية لسيكولوجيا الانهزام الممزوجة بأمل الانتهازية و تغليب ” الأنا” التي صارت مهمتها مختزلة في اتقاء شر النظام تفاديا للمهالك و اقتناص الفرص على حساب ” الغير ” مهما كان، و لو كان صورة كادحة لهذه ” الأنا ”. لا يمكن أن نلوم المناضل المنقب عن هذه الحالة النفسية التي تعتريه لأنه لم يكن مسؤولا و لم تكن له الخيرة في البنيات التي أنتجتها، فالزرع بنوع التربة التي تحتضنه. إن الإيديولوجيا و القليل من الخبرة هما سمتا التنظيم النقابي في الآونة الأخيرة و المتحكمتان في سيره و تطوره و حتى في أفقه، و للأسف فلا الإيديولوجيا و لا الخبرة تكفيان. ما يحتاجه الفعل النضالي أولا هو هضم الوعي النضالي و فلسفة العمل النقابي عبر الوعي بالذات و القدرة على طرح السؤال و التفكير فيما هو كائن، ثم القدرة في نفس الوقت على إنجاز و قيادة المهام الإدارية و ربما السياسية داخل التنظيم. و عقلنة العمل النضالي تستوجب أولا اقتلاع شبكات الولاء المنغرسة في القاعدة التحتية للتنظيمات النقابية، و كما هو غني عن البيان أن الوصول إلى المهمة داخل التنظيم لا يتوقف على الأهلية أكثر مما يتوقف على الولاء للشخص الذي يكون قناة الوصول إلى المهمة. تنضاف إلى هذه المعضلة معضلة أخرى تتجلى في كون النظام/ الدولة قادرة في كل زمن و ظرف على احتواء الأطر القيادية التي قلما تتتجها التنظيمات النضالية من نقابات أو أحزاب. غني عن البيان أيضا أن التنظيمات النقابية لم تعد تملك سندا مجتمعيا كما كانت قبل أن يطفو فسادها، و لم تعد لها مرجعيات صلبة و هذا يفسر قصورها عن الامتداد داخل المجتمع و ظهور التنظيمات البديلة ( التنسيقيات ) التي اكتسبت ثقة فئات عريضة من الطبقة العاملة. ومن أجل بث مزيد من الاطمئنان و إعادة الثقة للقاعدة القديمة باشرت التنظيمات ” الكهلة ” خطاب زائفا للتحديث و التشبيب، لكنه كان تشبيبا بالإرث و القرابة في مجمله: استمرارية النخب التي شاخت عبر نخب جديدة من صلبها. هكذا يظل المناضل كيفما كان موقعه، كقيادي أو مسؤول من داخل التنظيم أو كقاعدة ملحقة بالتنظيم، سيظل أسير اللغز المستعصي و الحلقة المفقودة بين ما هو كائن و ما يجب أن يكون. بين حماس القاعدة الذي تذكي ناره سياسات الزحف المباشر على الحقوق و المكتسبات و بين شرط الثقة في القيادات و إخلاصها الذي ما فتئت تحركاتها الأخيرة تنمي شعور النفور و فقدان الثقة من لدن القاعدة. و عوض محاولات القراءة و الإصلاح من الداخل فضلت فئات لابأس بها من القاعدة الانخراط في سلسلة من الترقيعات غير المجدية من قبيل الترحال النقابي أو تشكيل تنظيمات فئوية بديلة مؤقتة و محدودة السقف الزمني و المطلبي، و أحيانا الوقوع في أسر الانهزامية و الاستسلام للواقع. و الفئة الأخيرة هي الأخطر لأن الانهزامية تقود بشكل عفوي إلى نوعين من التموقع: إما الارتماء في العدم و الانسحاب النهائي من الساحة النضالية مهما كانت النتائج، أو الارتماء في أحضان العصابة الإدارية و أزلامها من المنقبين المتماهين مع توجه الإدارة و المتقنين لمبدأ ” التقية ” النضالية، و لا أحد تخفى عليه درجة الوقاحة و الانتهازية التي يتمتع بها هؤلاء و مدى قدرتهم على إفساد النضال عن طريق الركوب على القضايا و المكتسبات. سيظل الوعي النقابي مثقوبا مادامت هذه الحلقة بين المنقب في القاعدة و بين من يمثله في القمة مفقودة، مادامت القاعدة لم تفهم أن طريقة تعاطيها مع الملفات ليست هي الطريقة التي تعالج بها و ينظر إليها من طرف القيادة، مادامت القاعدة تناضل على حقوق خبزية محرومة منها لكنها لا تتشارك هذا الحرمان و هم النضال مع قيادة متآمرة و متمتعة بكامل الحقوق و زيادة، مادام الصدق النضالي غائبا لدى كلا الطرفان و في كلا الاتجاهان، ستظل طرق النضال الحالية بهكذا شروط تعيد انتاج نفسها دون جدوى. Haut du formulaire Haut du formulaire Bas du formulaire