قال راوي سيرة أبي الفوارس عنترة بن شداد العبسي ،ياسادة يا كرام ، و تذكر عنترة و هو في ضيق الحال ، الأطلال و الربوع ، و فاضت من عينيه الدموع ، ولم يعد بإمكانه حبس الزفرات من الضلوع ، فصار الكلام مثل التنهد في صعود و طلوع ، فأنشد هذه الأبيات : ولأعصين حواسدي و عوائدي … و لأصبرن على شديد عنائي ولأجهدن على اللقا حتى أرى ….ما أرتجيه أو يحين قضائي ثم إن بني عبس تشتتوا في القفار، ومنهم من سار يطلب الفرار ، حتى وصل الى ديارهم ، و أخبروا مالك بن الملك زهير بما فيه عنترة من العنت و الوبال ، فركب في الحال وسار بفرسانه إلى أن وصل ميدان القتال … و رآى عنترة يحصد الفرسان ، و يغالب جراحه ، وقد تكاثرت عليه الفرسان من كل مكان ، و كادوا يسقونه كأس الحمام و الوبال ، و العصبة تغلب الأسد الرئبال .. فدخل مالك القتال ، ثم هجم و صال ، و هو يقول بصوت رددته الجبال : يا للعرب …يالعبس ..يا لعدنان .. فاختلط فرسان عدنان مع فرسان بني قحطان ، و اختلف بينهم الضرب و الطعان ، و اتسع على عنترة الميدان ، و تخفف من هجمة الشجعان ،و هدأت نفسه و اتسعت حواسه عن الخفقان ، و تمكن من ضرب الحسام و نشر الشجعان بالرمح و السنان ، يمينا و شمالا و في كل مكان ، و بقي الصدام حتى طلع القتام الى العنان ، و فاض الدم كالغدران ، و طاب الموت و هان ، و بان الشجاع من الجبان .. و لم تكن غير ساعة من الزمان حتى ولى بنو قحطان يجرجرون أذيال الخيبة و الهوان ، و قد حاز عنترة أسلابهم و خيولهم و اماءهم و عبيدهم و الجارية أميمة بنت شارب الدما ، و صار فرحا بمجيء صديقه مالك الذي أنقذه من المهالك .. و بعد ذلك ساروا إلى أن قاربوا الاوطان وهم في فرح و سرور، و لعبت بعنترة الأشجان لما تذكر ما كان ، و جرت دموعه على خده و ناح و أشد يقول صلوا على النبي الرسول : و ذكرني قومي حفظت عهودهم …عرفوا قدري و ما حفظو عهدي .. و لولا فتاة في حماهم مقيمة لنا .. اخترت طيب الوصل يوما على البعد شكا عقدها من نحرها متظلما .. فوا عجبا من ذلك النحر و العقد سأحمل من قومي و لو سفكوا دمي …وأحل فيهم دون الورى جهدي و كان عنترة ينشد هذه الأبيات و مالك يتعجب من فصاحته ، فقال له : أنا أعلم أنك نشرت لعبلة ذكرا سيظل يذكر بين جميع البشر..لكن الزم الحذر من عمك مالك وولده عمر .. قال عنتر: و الله ما أحد يذكر عبلة بشر ، مادامت الشمس و القمر و ما دام هذا الراس على هذا البدن … هذا ما كان من أمر عنترة و مالك ، أما كان من أمر ساش و الربيع بن زياد و أخيه ، و مالك بن قراد وولده عمر ،فإنهم ما أعجبتهم عودة عنترة و سلامته ، و كان شداد قد أخبرهم بكل ما كان من أمره ، وكيف طالبه بالنسب ، و كيف يريد أن يتزوج عبلة، فعولا على التخلص منه لهذا السبب .. و كان الملك زهير فقد خرج لاستقبال عنتر الهمام فارس بني عبس المقدام ،و كذا شيبوب فقد خرج في أوائل الناس فرحا بأخيه ، و كذلك خرجت سادات بني قراد و بني عبس ، و هم في سرور و طرب ، يضربون الدفوف و يحملون المزاهر .. و حكى عنتر للملك زهير كل ما حدث ، من البداية للمنتهى ، و ما كان منذ ان خرج من الحي و هو غضبان حتى جاء مالك و خلصه من المهالك و حمله من إنعامه و أفضاله ما لا تحمله الجبال .. و بعد ذلك قصد عنترة أباه شداد و اعتذر له عن كل ما بدر منه فرضي شداد باعتذاره و عانقه و أجلسه قربه في مجلسه ، و بعد ذلك حضرت أموال الغنائم عند بني عبس ، ففرقها عنترة عليهم بمعرفته ، اما الجارية أميمة فقد أخذها الى بيته و قال : هذه ابنة ملوك لا يجوز فيها بيع و لا شراء … ثم ان عنترة أعطى كل نصيبه من الغنيمة لأبيه ، و لم يترك لنفسه إلا الجواد الأبجر.. أما ما كان من أمر مالك بن قراد وولده عمر ، فقد تحدثا عن عنترة في السر وأضمرا له كل شر .. انتظروا الحكاية 24 من حكايات ابي الفوارس عنترة بن شداد