فتح الباب الخارجي للمنزل المطل على الزقاق بالمفتاح برفق حتى لا يوقظ ابنه وابنته الغاطين في نوم عميق , دلف إلى غرفة النوم متحسسا دون أن يشعل مصباح البهو , ارتمى جنب زوجته على السرير , داعبها هامسا في أذنها : " لقد بنيناه , أبشري يا أم أيمن , لقد بنيناه ..." , فتحت الزوجة عينيها في الظلام فزعة متمتمة : " باسم الله الرحمان الرحيم , ماذا بنيتم , أين كنت ؟ " , قهقه متعجبا : " أتسخرين مني , لقد بنينا المنزل الذي سيأوينا جميعا عما قريب , شيدنا دوره السفلي " , امتدت يدها إلى زر المصباح الخافت النور على منضدة صغيرة جنب السرير , أشعلته , نظرت إلى وجه زوجها وقد انكشفت أساريره عن ابتسامة عريضة , ابتسامة لحظة غالية طالما انتظرها كملايين الأشخاص بهذه البلاد الذين يراودهم حلم الحصول على قبر الحياة , قالت الزوجة متتائبة : " كم الساعة الآن ؟ " , " منتصف الليل " , فكرت قليلا ثم أردفت : " عجبا , كنت قد غادرت بعد صلاة المغرب , كيف استطعتم بناء ذلك المنزل في ظرف أقل من أربع ساعات ؟ " , " هل كنا نمزح ؟ لقد تعاونا جميعا , أنا والمعلم ومساعدوه , حفرنا الأساس , قطعنا الحديد ثم شبكناه ووضعناه في الأساس قبل أن نضع فوقه الحجر والإسمنت ثم شرعنا في تشييد الجدران ولم نتوقف حتى انهينا عملنا " , " ولكن أين السقف والنوافذ والباب الخارجي ؟ هل ستتركونه مرتعا للأطفال والمنحرفين ؟ " , " لا تقلقي سنكمل عملنا غدا مساء إن شاء الله سنحدد الغرف والمطبخ والحمام , ثم نضع السقف , ونركب شبابيك النوافذ والباب الرئيسي ونقفله بإحكام , لينتهي الأمر , ونشرع قريبا في الإصلاح الداخلي لمرافق منزلنا , بعيدا عن أعين المراقبين " . ضحكت وهي تمسك براحتها على كفه الخشنة وقالت : " لم أفهم بعد أمر مثل هذه المنازل التي يبنيها الفقراء بهذه السرعة , كم كنت أتمنى أن يكون لأولادي منزل فخم كمنزل أولاد خالهم الذي كلفه سنتين ومالا طائلا لبنائه وتجهيزه " , " قلت لك لا تقلقي , سيعجبك منزلنا مادامت شبكتا الماء والكهرباء لا تبعدان عنه كثيرا " . لم يذق طعم النوم طيلة ما تبقى من الليل , أما زوجته فأكملت نومها كعادتها إلى الصباح كأن أمر ذلك المنزل لا يعنيها , قام من فراشه توضأ ثم أدى الصلاة وأعقبها بأدعية الصباح التي اعتاد أن يحصن بها نفسه وذريته قبل خروجه إلى عمله , لكنه فضل هذه المرة أن يعرج على المكان حيث يوجد منزله الجديد ضاحية المدينة , راح يشق الزقاق تلو الآخر حتى اقترب من المكان الموعود حيث تراءى له حشد من الأشخاص , رجال , أطفال , ونساء , وقد تعالى لغطهم وعويلهم ليعما المكان , ما هذا يا رب ؟ نسألك السلامة , لازال يتذكر أنه ترك وعمال البناء المكان في سكون وسلام , ما إن اقترب أكثر من معالم المكان حتى تراءت له منازله وقد تحولت إلى خراب , ذكره بخراب قصف الحروب , كان منزله الذي بناه قبل أقل من ست ساعات قد سوي بالأرض , دنا منه وراح يتأمله , كيف صار خرابا قبل أن تلامسه نور شمس صباح ذلك اليوم ؟ حاول عبثا أن يسترجع صورته في ذاكرته في اللحظات التي غادره فيها قبل ساعات وقد بدا حينئذ منظره في عينيه كالقصر , ابتسم ابتسامة لم يفهم معناها , ما أشد ضعف الإنسان , أمانيه كالجبال لكن للقدر قد يكون رأي آخر , اقترب من حشد الناس ليستفسر في الأمر , لكن سرعان ما تراجع إلى الخلف , استدار , أي جواب سيتلقى منهم غير تلك الدموع والندوب على الخدود ؟ التي توحي بأن الدولة كان لها رأي آخر , واستغلت سبات أولئك الضعفاء لتجهز على حلم طالما راودهم في أقل من ساعة , حلم صرفوا الغالي والنفيس ليتحقق لكن سرعان ما تحول إلى خراب , خراب من عقول وقلوب لا ترحم . عدل في تلك اللحظات عن الذهاب إلى عمله , راجعا إلى بيته يجر ذيول الخيبة , ماذا سيقول لزوجته وابنه وابنته ؟ قدر الله وما شاء فعل , بهذا طالما دارى مظاهر فشله , وقد عرف حتى عند زملائه بقدراته الهائلة على تناسي خيبات الأمل وعدم الأسف على الماضي , الأهم عنده سلامة نفسه وزوجته وولديه . شعرت زوجته بالانزعاج وهي تراه منتصبا أمامها بالمطبخ من جديد فقالت : " هذا أنت , لماذا رجعت توا ؟ هل نسيت شيئا ؟ " , ضحك ملء فيه وقال : " بل أنا المنسي بهذه البلاد إلا من مصائبها " , رفعت رأسها مندهشة وأردفت : " مالك ؟ ماذا وقع لك ؟ كنت البارحة فرحا مرحا " , تنهد : " المسكن يا زوجتي العزيزة , لقد هدموه " , ضحكت ساخرة : " هدموه , من الذي هدمه ؟ وكيف هدمه ؟ ولماذا هدمه ؟ " , " هدمته السلطات وباقي المنازل بالجرافات لأنها بنيت بطريقة عشوائية " , رقت زوجته لحاله قائلة : " لا تكترث للأمر , خيره في غيره , قلبي حدثني منذ البداية أن أمرا غير سار وراء ذلك المسكن المشؤوم " . شرع يتناول فطوره , حينها أقبل ابنه نحو المطبخ وقد استيقظ للتو من النوم فقال : " لقد سمعت كل شيء يا أبي , ليتني كنت هناك لحظات إجهازهم على أكواخ المساكين " , رد الأب ساخرا : " وماذا ستفعل لهم لوكنت هناك ؟ لقد جاؤوا بجيش عرمرم من قوات التدخل السريع بقيادة مسؤولين كبار في ساعة متأخرة من الليل تجنبا للاصطدام بالضحايا " , " لكن أين سماسرة الانتخابات الذين وعدوكم بأن مرشح البرلمان سيحمي مساكنكم يا أبي ؟ كيف ذهب صوتك وصوت أمي هباء منثورا ؟" , رشف الأب من كأس الشاي ثم أردف : " مرشح البرلمان ؟ ما فيه يكفيه , لقد توارى عن الأنظار بعد فشله في الحصول على مقعد برلماني , حيث صرف أموالا طائلة حسب ما يتردد على ألسنة الكثيرين , منهم من قال إنه سافر خارج الوطن لتغيير الأجواء , وآخرون ادعوا أنه نزيل بأحد المستشفيات للعلاج من آثار الصدمة ", تابع الابن وهو يفرك عينيه من آثار النوم : " أنت لا تعرف يا أبي مثل هؤلاء إنهم كالمناشير طالعين واكلين , نازلين واكلين , الأموال التي صرفها هي أموال الشعب لماذا سيتأسف عليها ؟ اكترث لحالنا نحن ما دمنا نعيش بهذا المنزل الضيق الذي ليس في ملكنا مطالبين بدفع سومة كرائه نهاية كل شهر " . أجاب الأب متأسفا : " ما بني على باطل فهو باطل يا ابني , يستحوذ الشيطان على قلوبنا في كثير من الأحيان , فنغيب الله عز وجل في أعمالنا , فعندما تسير الانتخابات وفق المصالح الشخصية الضيقة تفقد مصداقيتها وجدواها , لو أننا صوتنا لصالح مرشح , ليصلح أحوال البلاد والعباد لثبت أجرنا عند الله عز وجل قبل متاع الدنيا الزائل , لكن الذي حدث , أننا أدلينا بأصواتنا لمصلحة شخصية ضيقة , فلا مساكننا بقيت , ولا الذي صوتنا عليه وصل إلى البرلمان " . عبدالرحمان المكاوي : 14/10/2016 م