"التحكم، التماسيح والعفاريت، أعداء الديموقراطية، الدولة العميقة..."، مصطلحات من بين أخرى، يرددها بنكيران كالببغاء منذ توليه رئاسة الحكومة، لكنه لم يتجرأ يوما على تسمية الأشياء بمسمياتها... غالبا مايذكر بنكيران اليساريين كلما جالسهم، بانتسابه يوما ما إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لكن الرجل غادر بعدما لم يتمكن من استيعاب مشروع حزب بنبركة والبصري وبوعبيد. انتقل إلى الشبيبة الإسلامية، إلا أن زعيمها الأبدي عبد الكريم مطيع لا يعترف بانتمائه لهذه المنظمة المتهمة باغتيال المناضل اليساري عمر بنجلون، بل لم يتوان في الكثير من المناسبات في وصفه ب"الجاسوس" و "العميل"، تهمة رافقته ومازالت، وجهها له الأصدقاء قبل المعارضين، ومنهم "الكوميسير الخلطي"، الذي كان رئيس حكومتنا آنذاك يتردد على منزله، في فترة "الشبيبة" وبعدها "الجماعة الإسلامية"، وبرر ذلك بعلاقة صداقة عائلية... كان اليسار حينذاك يقود نضالا شرسا ضد التحكم والاستبداد، فكان بنكيران والعديد من رموز الحركة الإسلامية، أداة في يد المخزن و"التحكم" للقضاء على اليسار المناضل، وهذا واضح في رسالة لم ينفها بنكيران يوما، مؤرخة في 17 مارس 1986، أرسلها إلى ادريس البصري، رجل "التحكم" في عهد الحسن الثاني، يخاطبه فيها ب"معالي الوزير"، ويلتمس من معاليه أن يسمح له بمحاربة اليسار "الملحد"، هذا اليسار الذي كان حينذاك الكثير من مناضليه يقبعون في السجون، ويعذبون، ويعرون صدورهم لرصاصات الغدر، من أجل الديموقراطية، ولأن التاريخ لا يرحم فهذه الرسالة دليل على دعم الرجل في وقت ما ل"التحكم" ضد الشرفاء... وبعيدا عن ماضي الرجل، الذي أتعب آذاننا كل يوم بحديثه عن "التحكم"، ففي الحاضر الكثير من المؤشرات التي تدل على خدمة هذا "التحكم"، فهو نفسه الذي وصف حركة 20 فبراير، التي خرجت للمطالبة بإسقاط الفساد والاستبداد، ب"الطبالة والغياطة"، وكان في صف من يصفهم الشباب ب"البلطجية" ضد الحركة، بل منع أعضاء حزبه من الخروج في مسيراتها... بنكيران، الرجل الشعبوي، الذي يظهر في جل تدخلاته في البرلمان وعلى التلفزيون العمومي، وفي الندوات، متحدثا بخطاب ونبرة "تحكمية" و"استبدادية"، لا تحترم الرأي الآخر، ولا يتوانى في وصف معارضيه بخدمة أجندة الدولة الموازية، ولكن بنكيران يزأر فقط حينما يتعلق الأمر بالفقراء، فلا أحد نسي، كيف توعد الأساتذة المتدربين، بعدما ذاقوا كل أنواع الضرب والإهانة في الشارع العام، خاطبهم حرفيا :"أقسم بالله أنني لن أتراجع عن المرسومين ولو أدى الأمر إلى سقوط الحكومة"، هو نفسه الذي تشبث بإصلاح أنظمة التقاعد وتوعد النقابات والموظفين، مرة أخرى تحديا لهم: "إصلاح التقاعد سيمر بأي وجه كان، ولو سقطت الحكومة"، فمرر هذا القانون بشكل "استبدادي"، بعدما ضرب عرض الحائط، كل تراكمات الحوار الاجتماعي مع النقابات المركزية، والمقاربة التشاركية و الاستقرار الاجتماعي، دون أن يحترم حقوق العمال وكرامتهم... تصور معي شخصا يحصل على أجر "خمس نجوم"، وتعويضات لا حدود لها، وتقاعد يقارب خمسة ملايين سنتيم، فيأتي بوجه "قاصح"، ليقنع الموظفين ببتر جزء من أجورهم الزهيدة وزيادة ثلاثة سنوات من العمل، وتخفيض تعويضات تقاعدهم الحقير؟؟؟..حاول أن تتخيل... الرجل لم يتوان يوما، في التزام الصمت والتواطئ حيال قضايا تشتم منها رائحة الفساد، الذي قال أنه جاء ليحاربه، فتواطأ والتزم الصمت، فذاك الذي توعد الأساتذة المتدربين والطلبة الأطباء، والنقابات والموظفين والفقراء، حينما خاطبهم ب"الهراوات" التي كانت "أبلغ من الحوار"، يصير وديعا أمام من يصفهم ب"التماسيح والعفاريت"، يسألونه عن رأيه في قضية "خدام الدولة"، فيجيب: "الصمت أبلغ من الكلام"، ومواقفه في مثل هذه القضايا تتشابه... لننظر الآن، ماذا أنجزت حكومة بنكيران، لفائدة الفقراء، ضد من يصفهم ب "المتحكمين في السياسة والاقتصاد"، كما يعتبر بنكيران الصمت أبلغ من الكلام، فاللبيب يعتبر "الواقع والأرقام أبلغ من الخطاب"... حكومة بنكيران، قررت إصلاح صندوق المقاصة، وهو ما مس بشكل رهيب القدرة الشرائية للطبقتين الفقيرة والمتوسطة، فتوالت زيادات في أسعار الكازوال والشاي والملح والماء والكهرباء وحتى علب السردين... الحكومة التي استأسدت على العمال، بقرار الرفع من سن التقاعد ، تصير خروفا لا حول له ولا قوة، أمام النافذين في السلطة والريع، فتجاهلت مطالب شعبية بإسقاط "التقاعد الريعي المقيت"، الذي يستفيد منه الوزراء والبرلمانيين... وهي نفسها التي أقرت زيادات في أجور الولاة والعمال والباشوات والقياد...، ثم زيادات خيالية لفائدة رؤساء الجهات والجماعات، (55 ألف درهم كتعويضات لرؤساء الجهات و15 ألفا لرؤساء الجماعات)... نفس الحكومة التي أغرقت المواطنين بالزيادات، رفضت مقترحا لسن ضريبة على ثروة الأغنياء، فيخرج بنكيران عن صمته في قضايا التماسيح، ويبرر امتناعه عن تطبيق هذه الضريبة لأن المستثمرين سيفرون إلى الخارج، ومن سيدفع الثمن؟... الفقراء الذين لا وجهة لديهم يهربون إليها... وهو نفسه الذي تراجع عن "الضريبة التضامنية" (مساهمة مطبقة على من يفوق دخله الصافي 30 ألف درهم)، والشركات التي تفوق أرباحها 20 مليون درهم)، رفقا بوزرائه وبرلمانييه "المساكين"... رغم ذلك فبنكيران وحكومته يتبجحون بإنجازات كبيرة، لكن أغلبها لا أثر له في تقارير المندوبية السامية للتخطيط، ولا في أرقام البنك المركزي، ولا في تقييم المنظمات الوطنية والدولية... الحكومة تعطيك بيد وتأخذ أكثر باليد الأخرى، فهي تقول أنها أقدمت على قرار تاريخي، بالرفع من قيمة منح الطلبة لأول مرة منذ عقود، بما يقارب 2000 درهم لكل طالب في السنة، قرار اجتماعي مهم جدا... ولكنها لا تصرح بتخفيض منحة 10000 أستاذ متدرب،(من 2450 درهما إلى 1200 درهم شهريا، وهو ما يعني ربح 11250 درهم عن كل أستاذ متدرب في مدة 9 أشهر) دون أن ننسى قرار فرض مبالغ تتراوح بين 2000 درهما و 4000 درهما على الموظفين الراغبين في متابعة دراستهم بمختلف الجامعات، وهو ما يضرب في مبدأ المجانية، ويفتح المجال لخوصصة قطاعات حيوية كالتعليم... والمشروع الاجتماعي الآخر، الذي يسوق من خلاله بنكيران سياسيا وانتخابيا لحزبه، هو تقديم تعويضات للأرامل، ولكن فقط 10000 أرملة استفادت من هذه التعويضات، وارتفع هذا العدد الى 37 الف في 2016، و الإحصاء العام الأخير يتحدث عن وجود أكثر من 1 مليون أرملة، و هناك شروط صعبة للاستفادة (ألا تجمع الأرامل بين الدعم المقدم لهن وأي معاش أو تعويض عائلي يدفع من ميزانية الدولة، أْو من ميزانية جماعة ترابية أْ تدفعه مؤسسة أوْ هيئة عموميَة، من قبيل المنح الدراسية أو الدعم المقدم في نطاق برنامج "تيسير"...) شروط تقصي أغلبية الأرامل من هذا التعويض...ليصير هذا المشروع الذي تصفه بعد الأحزاب والفعاليات ب"الانتخابي"، مجرد ذر للرماد في العيون... وفيما يخص نسبة البطالة التي وعدوا بتخفيضها الى 8 في المائة، فقد وصلت إلى 9.9 في الفصل الأول من سنة 2015، وبلغت 10 في المائة في نفس الفترة من 2016، حسب المندوبية السامية للتخطيط، وكانت هذه النسبة لا تتجاوز 8.9 سنة 2011، أي قبل قدوم بنكيران... أما الرقم المهم في كل المؤشرات الاقتصادية، نسبة النمو، فليس أيضا في صف بنكيران، فالعدالة والتنمية وعدت الناخبين بتحقيق نسبة نمو تصل إلى 7 في المائة، ثم راجعوا هذه النسبة في البرنامج الحكومي لتنزل إلى 5.5 في المائة، لتغوص إلى أدنى مستوى، حوالي 1.2 في المائة، كما توقع البنك المركزي برسم سنة 2016.... وقد كانت تبلغ 5 في المائة في 2011، قبل ترؤس العدالة والتنمية للحكومة... والدين العمومي تجاوز 81 في المائة من الناتج الداخلي الخام، وارتفع بأكثر من 200 مليار درهم خلال ولاية الحكومة الحالية... وفي سبيل المقارنة، فعند تشكيل الحكومة، كانت المديونية لا تتجاوز نسبة 51 في المائة من الناتج الداخلي الخام، كما أن جميع الحكومات السابقة لم تتجاوز نسبة 60 في المائة التي يحددها البرلمان سنويا في قانون المالية...ليسير المغرب بذلك نحو المجهول... ولكن ما يحسب لحكومة بنكيران "النيوليبرالية"، هو كونها تلميذة نجيبة لدى الصناديق الدولية، تنحني لإملاءاتها، وتفتخر بإشاداتها، دون أن تكترث لوضعية الشعب، فإصلاحاته لا تأخذ ببرامج الأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة والمعارضة ولا بمطالب الشعب ، ولا بالتصريح الحكومي، وإنما بتوصيات المؤسسات النقدية الدولية...والشعب يمشي يموت... كل هذه المعطيات، وما خفي كان أعظم، دليل ملموس على فشل الحكومة في مختلف القطاعات، وكل هذا لا يترك شكا في كونها لم تتوفق في أداء مهامها، ولم تستطع إنجاز حتى ثلث ما وعدت به، ولم تتمكن من تحسين أداء الاقتصاد الوطني، فكيف يحاول بنكيران والتابعين له بإحسان الى يوم الدين، أن يغلفوا الفشل بخطاب شعبوي، وبكلام ميتافيزيقي، موجه للاستهلاك وللاستثمار في الانتخابات؟.. أ لأنه جرب حلاوة الكرسي والمنصب ولن يتركه بسهولة؟...ربما... وبالعودة إلى اتهام العدالة والتنمية للأصالة والمعاصرة، بكونه أداة للتحكم والاستبداد، فصحيح أن فؤاد عالي الهمة كان من بين المؤسسين، وليكن المؤسس الرئيسي، فمن أسس العدالة والتنمية؟ إنه عبد الكريم الخطيب، طبيب القصر وصديق الملك...وكما يتهم بنكيران "التراكتور" أن المخزن أسسه، لمحاربة الإسلاميين، فاليسار مازال يؤكد، أن المخزن هو الذي أسس الحركة الإسلامية للحد من تمدد اليسار المناضل (خاصة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والحركة الماركسية اللينينية في السبعينات)...دون أن ننسى اتهامات الكثير من الحداثيين والتقدميين للمصباح ب"الاتجار بالدين"، في مقابل تهم تتعلق بخدمة "التراكتور" للمخزن بشكل أكبر من "المصباح"... الحزبان، في تقديري، ليس هدفهما خدمة قضايا الشعب، بل يسعيان إلى ترسيخ الاستبداد وتفقير الفقراء وإغناء الأغنياء، والحد من الحريات والحقوق، وهذا مايراه الكثير من الباحثين والفاعلين السياسيين والحقوقيين... وحتى لا أتهم بخدمة أجندة التحكم، التي أصبحت تهمة جاهزة لدى حزب العدالة والتنمية، فأنا مواطن من المغرب العميق، لست إقطاعيا ولا بورجوازيا، لا أنتمي إلى "مجموعة التحكم" الميتافيزيقية ولا المادية، ولا إلى خدام الدولة، وأختلف جذريا مع حزبي الأصولية المخزنية، والأصولية الدينية والمخزنية في نفس الوقت، وأرى أنه لابد من تقوية الاختيار الديموقراطي، الذي لا يمثله لا "المصباح" ولا "التراكتور"، أتحدث عن الخط الثالث الذي يؤمن بإصلاح عميق للدولة، يتيح ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتقليص الفوارق الطبقية، والتوزيع العادل والمنصف للثروة، وتحقيق الحرية و الكرامة والعدالة والاجتماعية، بالفعل لا بالخطاب... عمر إسرى، إعلامي