أو عودة الإحتجاجات وتحولات تعاطي الدولة معها عزيز سعيدي مرت خمس سنوات على انطلاق شرارة الاحتجاجات التي أججت ما سمي بالربيع العربي من تونس، خمس سنوات على خروج مواطني ومواطنات الدول العربية للشارع للتعبير عن رفضهم للاستبداد والظلم والقمع الذي يمارس ضدهم في بلدانهم ومطالبتهم الحكام بتغيير سياساتهم ونظرتهم تجاه شعبهم، وهو خروج شابه الكثير من التجاوزات التي خلفت موتى وجرحى وأدخلت هذه البلدان في الشك وعدم الإستقرار والمجهول. ولكون المغرب بلد عربي كباقي البلدان العربية التي لم تصل بعد لمستوى البلدان التي تحترم حقوق وحريات مواطنيها بالقدر الكافي كما هو متعارف عليه دوليا فقد عرف هو الآخر احتجاجات ومظاهرات شعبية على غرار تونس ومصر وليبيا قادتها حركة 20 فبراير للمطالبة باصلاحات جذرية دستورية وسياسية واقتصادية واجتماعية على غرار الدول المتقدمة ديموقراطيا، وهو ما استجيب له بشكل فوري عكس باقي الدول العربية بعد خطاب الملك في التاسع من مارس 2011 والذي أدخل المملكة في عهد ديموقراطي جديد بمتغيرات دستورية ومؤسساتية جديدة تجسدت في دستور المملكة لسنة 2011. منذ ذلك الحين والتفاؤل بعهد جديد تحترم فيه الدولة حقوقهم وحرياتهم وتستجيب لمطالبهم وحاجياتهم بالشكل المناسب يخيم على الجو العام بالبلاد، منذ ذلك الوقت والمغاربة ينتظرون ترسيخ دولة الحق والقانون بالشكل الذي يتمنوه، فهل نجح التحول الذي باشره المغرب منذ 2011 في التخفيف من حدة الإحتجاجات؟ وهل ساهم هذا التحول في تكريس ثقافة جديدة للإحتجاج وأسلوب جديد لتعامل السلطات العمومية معها بالشكل الذي يقتديه جوهر ولب النظام الدستوري لما بعد 2011؟ وأي قراءة يمكن القيام بها لظاهرة الإحتجاج بالمغرب وما يرافقها من تمظهرات اجتماعية واقتصادية وسياسية وما تأثيرها على صورة المغرب ومكانته التي يحاول جاهدا تلميعها في أفق دولة الحق والقانون؟ ثقافة الإحتجاج بين منطق القمع الممنهج والحرية المقيدة لا يختلف اثنان في كون الإحتجاج حالة اجتماعية طبيعية وصحية في أغلب وأعرق الديموقراطيات في العالم، ويشهد التاريخ على أن التحولات التي شهدها ويشهدها العالم ما هي إلا نتيجة حتمية ومباشرة لحركات احتجاجية تباينت حدتها من دولة لأخرى ومن سياق لآخر؛ بل وكان أساس هذه التحولات في أغلبها خروج المواطنين للشارع للتعبير عن رغبتهم في التغيير. وثقافة الاحتجاج وليدة البنية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتراكمة التي يختلف أثرها وجدواها وحدتها من مجتمع لآخر. وبديهي أن نجد في واقع تحركات الشعب ضد سياسات دولة معينة علاقة وثيقة بين مستوى تطور ورفاهية مجتمع ما واحتجاجات شعبها. فالإحتجاجات تقل في مجتمع يعرف مواطنيه رفاهية وازدهار ومستوى عال من التعليم والصحة عكس المجتمعات المتخلفة التي لاتزال أوضاع مواطنيها غارقة في الإستبداد الإستغلال والتهميش والبؤس اللامساواة الذي يع ولأن منطق الدول يحكمه، حسب مستوى الديموقراطية الذي وصلت إليه، ضرورة التوفيق بين مطالب الشعب المشروعة وتعبير المواطنين عن غضبهم وسخطهم من سياسات وبرامج السلطات التي تتولى تسيير شؤونهم وماهو أمن عام واستمرارية هذه الدول حفاظا على مصلحتها العليا ومصالح المواطنين من الأضرار التي قد تنتجها ظاهرة الإحتجاج؛ فقد شكل هذا التوفيق إحدى الاشكاليات التي اختلف ويختلف حولها أغلب المنظرين والمتحكمين في دواليب هذه الدول. وإذا كانت دولة الحق والقانون تستلزم احترام حقوق المواطنين في التظاهر والتعبير عن مطالبهم سواء أكانت مشروعة أم لا، فإن مستوى تقبل الدول لهذه المظاهرات والاحتجاجات رهين بمدى تشبعها بالديموقراطية وبحقوق الإنسان وتقبل آراء المواطنين بالقدر الذي يتحتم عليها تحقيق الرخاء والإزدهار لمواطنيها. لقد عرفت ثقافة الإحتجاج في المغرب مجموعة من المراحل والتحولات التي عكست مستوى تعاطيه مع احتجاجات المغاربة، فقد كان المنع والقمع والإعتقال إحدى أهم الوسائل التي انتهجتها الدولة للتعامل مع المتظاهرين والمحتجين في المرحلة التي تلت استقلال البلاد إبان حكم الملك الراحل الحسن الثاني. وهنا يمكن الإشارة لسنوات الرصاص وسنوات الإستثناء والإنقلابات العسكرية التي عرفها المغرب حيث جوبهت كل محاولات المغاربة للتعبير عن مطالبهم بالتغيير التي كانت آنذاك راديكالية تجسد أهمها في المطالبة بتغيير نظام الحكم من الملكي للجمهوري وتأقلمه مع السياق العام الذي ساد آنذاك إبان بزوغ فجر الحركات التحررية والبحث عن الذات في سياق هش وقابل لكل الإحتمالات لا يمكن إنكار تسجيل تحول كبير في مستوى وحدة وشكل الاحتجاجات في المغرب منذ الإستقلال وكذا طريقة التعامل معها من قبل السلطات العمومية. فانخراط المغرب في موجة التحولات القانونية والحقوقية التي يشهدها العالم منذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ساهم في تغيير القوانين المنظمة للتظاهرات والطرق الجاري بها العمل في التعامل مع هذه التظاهرات والإحتجاجات بما يتماشى والتوجه العام الدولي في سبيل احترام حقوق الإنسان بصفة عامة وفي حقه في التطاهر والإحتجاج بصفة خاصة. ورغم هذا التحول فممارسة حق الإحتجاج ليس مطلقا ولا يمكن ممارسته دون التقيد بالضوابط القانونية والأمنية المعمول بها. -عندما يتداخل السياسي بالحقوقي في الاحتجاجات: في كل الأشكال النضالية التي يقودها الشعب أو جزء منه ضد الدولة أو مؤسساتها لا يمكن إنكار تداخل بين وواضح بين كل ما هو حقوقي وسياسي؛ إذ تحاول أطراف المعارضة والغاضبون ممارسة الضغط على الدولة ومؤسساتها عن طريق استغلال المظاهرات لتحقيق مآربها السياسية وزعزعت توازن الحكومات والمؤسسات. في حالة المغرب المعاصر لا تكاد تخلو مطالب الشعب مهما كانت مشروعة من وجودها في قالب سياسي يتحكم فيه العارفون بخيوط اللعبة السياسية ويوجهونها طبقا لما تقتضيه مصالحهم ونزواتهم السياسية. فالمعارضون للحكم في المغرب يركبون على مظاهرات الشعب ومعاناتهم عبر مشاركة هؤلاء كل نضالاتهن بل ويندسون في حشودهم لتقويتها وتحويل مسارهما من ما هو سلمي مقبول لما هو مواجهة مباشرة وغير مباشرة مع قوات الأمن وهذفهم في ذلك إحراجها وإحراج الدولة عبر إثارة انتهاكات حقوق الإنسان وجر انتقادات المنظمات الدولية عليها بعد كل تدخل امني غير محسوب العواقب مثلما وقع في مظاهرة الأساتذة المتدربين في إنزكان أو ما سمي بالخميس الأسود. ألفنا في ممارسة السياسة في بلادنا كما في باقي الدول أن تتعاطف أحزاب المعارضة والتنظيمات غير المساندة للحكومة مع مطالب الشعب وتوليها الدفاع عنها في مختلف المناسبات الرسمية وغير الرسمية وهو أمر طبيعي لأن الأمر وما فيه في أبجديات العلوم السياسية تبحث عن مواضيع وقضايا تشغل بال المواطنين لإثارتهم ضد ما تقوم به الحكومة والركوب على مطالبهم واستغلالها ونسيان ذلك بمجرد وصولها للمسؤولية وتولي تسيير الشأن العام. وهي سيناريوهات تعود عليها الشعب المغربي ساهمت بشكل كبير في تقوية عزوفه وتكسير ثقته في العمل السياسي ككل وارغامه على عدم المشاركة في الانتقال الديموقراطي وفتح المجال بذلك لعهد الفساد وشراء الأصوات وللإحتجاج الذي ينتج عن عدم الإستجابة لمطالب الشعب بعد التنكر لها. ولأن الشارع كما حاول دراسته المنظرون يعتبر مجالا خصبا لصراع أفكار وأطماع وأهداف السياسيين والحقوقيين والإقتصاديين، يطرح دائما السؤال حول المستفيد والخاسر من حراك هذا الشارع وغليانه، وتطفو للسطح ضرورة تقييم لإحتجاج بالرجوع للمكاسب التي تمكنت من تحقيقها وتلك التي لم تفلح في الوصول إليها، وهي أساس التقييم الذي يلجأ إليه الفرقاء السياسيين والحقوقيين بعد نهاية كل مسار احتجاجي. -انتقائية الإعلام في تعامله مع احتجاجات المغاربة وصعود الإعلام البديل في عصرنا هذا أصبح للإعلام دور كبير في توجيه وتقوية أوإحباط محاولات الإحتجاج التي يقبل عليها الأشخاص حسب مستواهم وقوتهم ومدى تملكهم للمنابر الإعلامية. فالمتتبع للظواهر الإحتجاجية بالمغرب يلاحظ تعاطي إعلامنا العمومي وغير العمومي بانتقائية مع خروج المواطنين المغاربة للشارع للتعبير عن غضبهم وسخطهم. في تعامل إعلامنا المغربي مع احتجاجات المغاربة يمكن الإشارة لكونه لم يهتم بمطالب الشعب بنفس القدر ونفس الإهتمام، فدرجة تغطياتها لاحتجاجاته تختلف من مظاهرة لأخرى وهو ما لوحظ في شكل تعاطيها مع خروج الطلبة الأطباء والطلبة الأساتذة المتدربين على سبيل المثال، بل وهناك احتجاجات لفئات معينة لم تنل نفس الحظ من التغطية ولم يكتب لها أن تصل مضامينها ومطالب المشاركين فيها للرأي العام المغربي. هذه الملاحظة تلخص بجلاء عدم وجود فئات المجتمع المغربي على نفس المسافة من الحق في التغطية الإعلامية وإيصال معاناتهم ومطالبهم لمن يهمه الأمر. قنواتنا وإذاعاتنا العمومية لم تكن في الموعد في كثير من الأحيان ولم تتدخل في أحايين أخرى إلا بعد فوات الأوان أو بعد استشعارها لضغط الشارع ووجود إحراج لها. فكم من احتجاج وصل صداه للرأي العام المغربي عبر قنوات الإعلام البديل أو مواقع التواصل الإجتماعي والمواقع الإخبارية خصوصا وأن العالم الإفتراضي أصبح أكثر تحررا وساهم في دمقرطة التعبير عن الرأي و فتح المجال لكل فئات المجتمع لإيصال معاناتها وانتقاذاتها للمسؤولين بل وتجاوز الإعلام العمومي في تغطياته على المستوى الكيفي والكمي ولم يعد مصدر الخبر وروافده حكرا على الإعلام العمومي لوحده. لقد أظهر الإعلام العمومي المغربي عجزا مهما في تحقيق العدالة والمساواة في حمل هموم المغاربة واحتجاجاتهم للرأي العام ودفع الآلة الرسمية المعنية للتدخل واستباق ما لا تحمد عقباه بانتهاج منطق الحوار والجلوس لطاولة المفاوضات مع المعنيين، وفسح المجال للبديل الإعلامي الجديد الذي تجسده مواقع التواصل الإجتماعي الذي أصبحت ساحة موازية للإحتجاج بل وغدت تشكل مصدر حرج وضغط كبير على المسؤولين حتى صار مرتادوا هذه المواقع يسمون بشعب الفايسبوك وشعب تويتر. -الإحتجاجات و التراشق بالمسؤوليات ما رافق وتلى آخر تدخل للقوات العمومية ضد الاساتذة المتدربين بمدينة انزكان يعكس بجلاء التخبط الكبير الذي يعيشه أعلى هرم الدولة في المغرب من حيث تحديد المسؤوليات والهروب من تحملها. أن يتراشق مسؤولونا بالمسؤوليات وينكر البعض منهم علمهم بما وقع لتبرير موقفهم وصمتهم خصوصا وأن ما تعرض له المتظاهرون يضرب في عمق ماتعلن عنه وتسوقه المملكة في مسارها الديموقراطي الذي وضع احترام حقوق الإنسان ضمن أولوياته الأساسية. وآخر مثال على هذا التراشق ما صدر عن وزير الداخلية في معرض جوابه على أسئلة البرلمان عندما أقر بعلم رئيس الحكومة بمجريات التدخل وتداعياته، الأمر الذي دفع هذا الأخير الى القسم بيمينه دافعا بعدم علمه بما وقع ورغم ذلك أقر بمسؤوليته المطلقة جراء ما وقع وأعلن عن فتح تحقيق لمعرفة ملابسات وحيثيات التدخل. أضف إلى ذلك ما صدر عن بعض أعضاء الحكومة بهذا الخصوص وأبرزها اتهام وزير العدل والحريات للوالية زينب العدوي بمسؤوليتها عما وقع. فهل يحتاج الشعب المغربي لقسم رئيس الحكومة ليثق بمكنوناته وحقيقة ما جرى؟ وهل حظ الشعب المغربي يقتصر فقط على تأجيل كل شيء وقبر المعطيات والتعامل مع ذكائه باستخفاف؟ قد يكون هناك جهات تقف خلف تأجيج الاحتجاجات، وقد يكون خروج حشود المغاربة للتظاهر مدفوعا من جهات معينة هدفها خلق البلبلة وعدم الاستقرار في الشارع العام، ولكن المغاربة ونحن في مرحلة مهمة من تاريخنا الذي يقوده بحزم ملك البلاد ينتظرون دائما معرفة الحقيقة والمسؤول عن كل تجاوز وعن كل اختلال للسير العادي لمظاهر الحياة العامة بالبلاد، وذلك لضخ الطمأنينة والأمن في قلوبهم وعدم ترك المجال للشك والخوف من المجهول وترك المسؤولين أحرارا بدون محاسبة سواء أكانوا مسؤولين أو مواطنين. -مستقبل الأحتجاجات وضرورة استباق المخاطر يتأسس منطق الدول في جله على أساس الإستمرارية وتفادي عدم الإستقرار وتأمين الأمن العام لمواطنيها على المستوى الداخلي والخارجي، وعلى هذا الأساس تتدخل سلطاتها على مستوى تنظيم العلاقات الإجتماعية عبر آلتعا القانونية والتنظيمية لضمان سيادتها ولحماية مواطنيها من كل انزلاق أمني قد لا تحمد عقباه. دروس الربيع العربي وما آلت إليه أوضاع بعض البلدان التي كانت مسرحا لخروج الشعب للشارع للتظاهر يستلزم على الدولة أن تكون حذرة في تعاملها واستعمالها للقوة عند تفريق وتسيير احتجاجات المغاربة، لأن كل انزلاق قد لا تحسب عواقبه جيدا وقد يستهان به وبتداعياته وقد يكون تلك الشرارة التي ستشعل هيجان الشارع ضد الدولة وسياساتها وآنذاك سيركب عليها بشكل واضح أعداء المسار الذي تتبعه المملكة وسيشكل فرصة استراتيجية لهم قصد تمرير رسائلهم ومخططاتهم وتعبئة أكبر عدد من المواطنين ضد الدولة ورموزها. إذا ما عدنا للدستور وللقوانين الجاري بها العمل في نظامنا القانوني، على الحكومة أن تتحمل مسؤولياتها وأن تعي جيدا خطورة المبالغة في الإضرار بمصالح المغاربة بكل فئاتهم والحذر في طريقة ممارسة اختصاصاتها الإقتصادية والاجتماعية لأن حكومة عبد الإله بنكيران الحالية يعاتب عليها اتخاذ مجموعة من الاجراءات اللاشعبية التي تضرب في عمق القدرة الشرائية للمواطنين واستقرارهم الإجتماعي. وفي الختام وجب تثمين ما تحقق من تطور على مستوى حق الإحتجاج واستغلال الشارع العام من طرف المواطنين لأجل التظاهر والتجمهر إلا أن أهم ما يجب التنبيه إليه على ضوء الأحداث الأخيرة التي شهدتها الساحة المغربية على مستوى التظاهر هو دعوة السلطات العمومية الحكومية والتنظيمية لمراعاة صبر المغاربة ومشاعرهم وتفهمهم لما تقتضيه المرحلة من تضحيات والتعامل بالحزم الحذر مع احتجاجات المغاربة واستحضار المقتضيات القانونية عند كل تدخل ضد المظاهرات والاحتجاجات وعدم التسرع في التدخل واحترام كل ما تقتضيه دولة الحق والقانون.