تشابهت الانتخابات المغربية مداخلَ ومُخرجاتٍ منذ أول انتخابات عام 1963، ما دام النظام السياسي لم يعرف تطورا جوهريا، حيث ظلت الدولة من خلال وزارة الداخلية وفية لنفس النهج التحكمي في الخريطة السياسية، وبالتالي لما ترقَ الانتخابات بعد لتكون محطة تقييم وتقويم للأداء السياسي الحزبي، وهو ما أضفى مع توالي العقود نوعا من التماهي بين الأحزاب خطابا ووعودا وبرامج بلغ أوجهُ خلال المحطة الأخيرة حيث توعدت كل الأحزاب المفسدين وتعهدت بعدم التحالف مع يعتبرهم كل فريق مفسدين، وكانت النتائج ما صار معلوما لدى الجميع. وإذا كانت هناك استثناء فهو يتجلى في منسوب الوعي السياسي شعبيا جلته نسب المقاطعة وأكاديميا عكسته التحاليل المواكبة للانتخابات كما ونوعا، حيث خضع العملية الانتخابية لعمليات تشريح غير مسبوقة نجحت بنسب كبيرة في كشف الاختلالات التي تعاني منها المنظومة السياسية ككل. اليوم وقد أوشكت الماكينة الانتخابية على التوقف استعدادا لمحطة الاستحقاقات البرلمانية بعد سنة، ما هي رسائل استحقاقات 4 شتنبر بعيدا عن لغة الأرقام والتي نالت حظها من التحليل؟ الرسالة الأولى للدولة: إذا كانت المقاطعة الآخذة في التنامي تزعج النظام، فإن من أهم أسبابها إصرار الدولة من خلال أم الوزارات على التحكم في الخريطة الانتخابية من خلال الحزمة المعتمدة في تدبير اللعبة الانتخابية بدءا من القوانين المنظمة ومرورا بالتقطيع الانتخابي وانتهاء بالتحالفات واختلال ميزان القوة لصالح الهيئات المُعينة على حساب المنتخبة؛ حزمة تدابير أفرغت العملية الانتخابية من الجدوى، وأحالتها مسرحية معروفة النهاية، وعليه، فالحاجة أكثر من ماسة لاعتماد تدابير تسهم في تخليق الحياة السياسية وإكسابها التنافسية الحقيقية، وإلا كيف يمكن إقناع من تبين لهم أنه غُرِّر بهم وانساقوا وراء سراب دعاية ممنهجة؟. الرسالة الثانية للأحزاب المشاركة: أكدت محطة 4 شتنبر البون الشاسع بين خطاب الأحزاب وبين انتظارات الشعب من جهة، وبين قدراتها التواصلية وبين منسوب الوعي السياسي الشعبي من جهة ثانية؛ كما أن أساليب الحملة الانتخابية لإقناع الكتلة الناخبة بدائية والوجوه المقترحة إلا ما ندر لتمثيل هذه الأحزاب غير مقنعة ونسبة كبيرة منها مستهلكة انتخابيا ومنتهية الصلاحية، مقابل هذا القصور أبانت الحملة الشعبية "المضادة" وعيا سياسيا كبيرا جسدته أعمال إبداعية مختلفة يسرت تقاسمها وسائل التواصل الاجتماعي والتي أسهمت في توسيع دائرة المقاطعين. أما على مستوى النتائج فتبين أن أغلب الأحزاب لا حاضنة شعبية لها وليس من التغلغل المجتمعي نصيب، والأوْلى أن تعيد النظر في وجودها، إن لم يكن بآخر الدواء: الحل التلقائي، فبالانتظام في قطبية أو تكتلات تعيد للحياة السياسية بعضا من الحيوية والجاذبية. الرسالة الثالثة للهيئات المنتخبة: إذا كان تواضع أداء المجالس المنتخبة وتواريها أمام سلطة الوصاية والمبادرات الملكية يبقى أكبر عامل لإقناع الناخب بعدم جدوى المشاركة، فإن التحدي الحقيقي أمام المجالس الجماعية بنوعيها أو الإقليمية أو الجهوية والوزارة الوصية هو ترجمة ما سُوق من صلاحيات لهذه المجالس في إطار دستور 2011، وهو تحدٍّ أمام الدولة وليس الحكومة فقط، وكما يقال شعبيا: "عَيْوعيْو يصْبحْ الحال"، وبعد سنة إن احترمت الأجندة الانتخابية ستجد الدولة والأحزاب نفسيهما أمام الاستحقاقات البرلمانية، فبأي شعارات ستقنع الشعب؟ وبأي مردودية ميدانية ستغريه بالمشاركة من جديد؟ الرسالة الرابعة للمقاطعين: إذا احتُسِبت نسبة المشاركة من البالغين سن التصويت وهذا هو المعمول به في الديمقراطيات، إذ لا وجود لعملية التسجيل في اللوائح الانتخابية، ولغاية في نفس المخزن لم تعتمد بطاقة الناخب في الاقتراع الأخير فلن تتجاوز النسبة 30%، وهذا يعني أن المحتل للرتبة الأولى هو "تكتل" المقاطعين، والنسبة تبعث برسائل إلى من يُهمهم الأمر بعدم الرضا عن الأسلوب التدبيري للشأن العام، ويتفاقم الأمر عندما نستحضر الوسائل التي اعتمدتها الدولة للتعبئة والتحفيز على المشاركة، إذ لم يبق غيرُ الاستجداء المباشر للمواطن للتوجه يوم الاقتراع إلى مكاتب التصويت، مقابل التصدي لكل دعوات المقاطعة وحرمان دعاتها من حقهم في التواصل مع الشعب مباشرة أو من خلال الإعلام العمومي. مقاطعة قابلة للتوظيف من جميع الأطراف، فإذا كانت الهيئات الداعية للمقاطعة تستند إليها للتأكيد على مطالب إصلاح النظام السياسي ودمقرطته وليس المنظومة الانتخابية فقط، فإن النظام السياسي يزداد بهذه المقاطعة "تغَوُّلا" على الأحزاب المشاركة ويجعلها ضعيفة لا تقوى على رفع مبادرة أو اقتراح ويحيلها جهازا لرد صداه ليس إلا؛ كما تطرح المقاطعة بهذه النسبة المرتفعة سؤال الجدوى والفعالية الميدانية، بمعنى أوضح، كيف تترجم هذه المقاطعة وليس العزوف كما يصور البعض إلى فعل مؤثر في الواقع يدفع نحو الإصلاح والتغيير المنشودين، وإلا استحالت سلوكا سلبيا ولا مبالاة يصب خراجها في النهاية في رصيد الاستبداد؟