شكرا للفايسبوك على فضح الفساد اللطيف الظريف سرَّبَ يُسرِّب ، تسريبًا، فهو مُسَرِّب، والمفعول مُسَرَّب، وهو معروف، ويتعلق ببعض مواد امتحانات الباكالوريا في مادة الرياضيات، لكن الفاعل مجهول. عملية التسريب جرت كالماء في القناة على موقع الفايسبوك، وفي زمن قياسي بعشر ساعات قبل موعد الاختبارات، كان الهدف منها ضرب مبدإ تكافؤ الفرص الشعار الذي رفعته الوزارة لمحاربة الغش في صفوف التلاميذ، لكن هؤلاء براء من هذه التهمة، لأن عملية التسريب لم تتم اعتمادا على تصوير أوراق الامتحانات بالهواتف النقالة من طرف التلاميذ بالنظر إلى زمن الفعل الثانية عشرة صباحا من ذلك اليوم المشؤوم عند بلمختار، الذي يجد نفسه هذه الأيام محتارا بين تسريبات الامتحانات، وتسريبات لم يعلن أصحابها عن هويتهم، واللذين كشفوا عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن تسجيلات ومستندات حول ما أسموه فضيحة اختلاس أموال البرنامج الاستعجالي لإصلاح التعليم. وتضمنت أيضا مكالمات هاتفية لأصحاب شركات تتعامل مع وزارة التعليم وتتضمن في مجملها تهديدات وذكر أصحاب شركات ووزراء ومسؤولين كبار بأسمائهم، تحتاج إلى طلب الشرطة القضائية مساعدة من مكتب التحقيقات، لفك ألغاز هذا الملف المرتبط بقضية فساد وغش وتدليس يضاهي فساد الفيفا، الذي كان مستورا وبدأ يتكشف. لكن ورغم اتهام سيب بلاتر حتى قبل المحاكمة بأنه رجل غشاش، فلا أحد أشار إليه بالبنان أنه زور شهادة الباكالوريا على غرار ما يحكى عن بعض وزرائنا، كما لم يسجل عليه الغش في الامتحانات خلال حياته الجامعية في سيون وسان موريتس في سويسرا، أو أثناء حصوله على شهادة في إدارة الأعمال والاقتصاد من كلية الحقوق في جامعة لوزان. هذا على مستوى حياته الدراسية، لكن على مستوى حياته المهنية، فإنه حتى ولو قالوا عنه نصاب وغشاش، وأنه أكبر محتال في الدنيا بعد إبليس، فهذه التهمة وإن تبثث من طرف المخابرات الأمريكية، فإنها ستدل ولا محالة على ذكاء الرجل وفطنته ودرايته وعلمه وخبرته. الغش سلوك آدمي، وهو مراتب ودرجات، يشمل الغش في الانتخابات، الحسابات، البنيات والتجهيزات، الصلوات، الامتحانات، السطو على المقالات كما العقارات، تزوير الشهادات... تزييف وتهريب العملات، يطال الصحافي والميكانيكي والصباغ والنجار والتاجر والخضار والمعلم والطبيب والمهندس والموثق والمصرفي والوزير والحاج والحجاج...، من شعبان إلى رمضان، لا فرق بين الأمي والمتعلم الألمعي والدارس الخبير في العلم والقانون وما أدراك من علوم ( علم الحيل)، وعليه فالفرق الوحيد يتحدد في مستوى ودرجة الغش وأسلوبه. الاحتيال من التحايل وهو الإتيان بحيلة للاستيلاء على ما يملك الغير برضاهم وخداعهم أو حرمانهم مما هم فيه من نعمة. وهو مختلف عن علم الحيل أو علم الميكانيكا عند العرب والذي يهدف لحل المشكلات باختراع الآلات. آلات ومبتكرات لم تكن من بنات أفكارنا بقدر ما جاد علينا بها الزمن، واجتهدنا في تطوير بعض وظائفها للاحتيال والابتزاز. فكم من شبقي مكبوت سقط ضحية مافيا غرف الدردشة وتعرى بمحض إرادته أمام كاميرا الحاسوب، وكم من واحدة من باب التباهي وضعت صورها على حائطها بالمواقع الاجتماعية، فوجدت نفسها تتحول من حيث لا تدري إلى كائن ممسوخ. لعب العيال ذو شجون، لاسيما في تعاطيهم أثناء الامتحانات مع الكاميرات الآدمية المعروفة ب(لجان المراقبة)، أساليب تجاوزت "الحرز" إلى اعتماد التكنولوجيا الحديثة، وفي كل موسم تتطور الإبداعات والحيل. فياله من أفق خيال ! يذكرنا بمقطع من مشهد ساخر في مسرحية "امرؤ القيس في باريس"، لعبد الكريم برشيد. ومفادها أن امرؤ القيس حين حل بمدينة (النور، الفكر، الحرية، العلم، الصوت الآخر، الفن ) سأله رجال الجمارك عن الوجهة التي قدم منها، وأخبرهم بأنه جاء من بلاد "الواقواق"، وطلبوا منه أن يحدثهم عن وقائع جرت في بلاده قيل أن الدنيا قامت لها وأقعدتها وبودهم معرفتها. فأخبرهم أن النظارات الشمسية أصبح مسموحا بها في بلاده، وأنها لم تعد عيبا. أما الأمر الثاني، فيتعلق بالكهرباء الذي عم بعض مناطق البلد. وهذا الموضوع له قصة غريبة عجيبة، (كما جاء على لسان امرؤ القيس)، الذي سيحكي لرجال الجمارك، أن دخول الكهرباء إلى البلد جاءت بفضل زيارة أميرهم لباريس الذي كان يعاني من مرض البواسير، فخضع للعلاج عبر الكي بالكهرباء، ومن ثمة عنت له الفكرة، فأدخل الكهرباء إلى البلاد، وزاد موضحا وهو يوجه كلامه للرجلين، ها أنتم عرفتم كيف أتتكم أنتم فكرة الكهرباء من الفوق في إشارة إلى الدماغ، في حين تسربت لنا نحن الفكرة من التحت. ما جاء في مسرحية عبد الكريم برشيد حضرنا بقوة ونحن نتابع الحملة التحسيسية لوزارة التعليم حول آفة الغش المتفشية في صفوف التلاميذ وذلك بمناسبة امتحانات الباكالوريا، دون أن تساءل الوزارة عن ما زرعته السياسات المتعاقبة في هذا المجال أو في غيره. إننا نجني حصاد ما شعشع في عقول الناس على مدار عقود من الزمان، ثقافة خواء، ثقافة هدم وإفناء. إصلاحات متتالية، من مناظرة إفران إلى البرنامج الاستعجالي الذي امتص القائمون عليه الملايير نصبا واحتيالا وغشا وتدليسا. مورد رزق رجل التعليم أصبح يبحث عنه في الساعات الإضافية، والأجرة لا تعدو إلا مصروفا للجيب، هذا بغض النظر عن طريقة التعليم الخاطئة ومناهج أكل عليها الدهر وأقسام مكتظة كالحمام عشية يوم عيد. قالوا : "من غشنا فليس منا"، قلت لا تحدثوني عن الغش، ففي بلادي يسكن الغش معنا، ومعنا ينام، ويظهر لنا في الأحلام. عليه نصوم وبه نفطر، وكل رمضان وأنتم طاهرون، صابرون، مكافحون، خاضعون، قانتون متفرجون على الفساد اللطيف الظريف ... كان الله في عون ياسمينة مع اللقاحات الفاسدة، وندعو لزوجها الفاسي الفهري بطول العمر، لينعم بالمزيد من الفرجة في اكتوائنا بنار فواتير أسعار الكهرباء، لنسدد للمكتب الوطني للكهرباء العجز الذي خلفه التدبير السيء، ونترك للمحكمة أن تقول ما نعجز عن قوله في هذه اللحظة. فرجة ممتعة. عبد الله عزي مدير جريدة المسائية / بني ملال