قد يتبادر إلى أذهان بعض القراء و نحن نكتب عن تغيير الخطاب الديني, أننا نسعى إلى محو ما تبقى من معالم الإسلام أو تبديله أو الزيادة أو النقصان فيه, و الأمر ليس كذلك البتة و إنما نصبو من خلال هذا المقال إلى تنوير الرأي العام و الإحاطة ببعض سيئات الخطاب الحالي و انعكاساته السلبية على المجتمعات الإسلامية عموما و بدون استثناء, حيث أن بعض الأخطاء التي يقع فيها الدعاة قد تجعل المتلقي يعرض عن الإسلام جملة واحدة, مع العلم أن الداعية يحسب أنه يحسن صنعا. و لا غرر أن يحسب الدعاة أنهم يقدمون الكثير للإسلام, و هم كذلك عندما يخاطبون المؤمنين الذين وصلوا إلى درجة عالية في الإيمان, لكن في حال خطاب العامة فلابد من تغيير نوعية الخطاب, خاصة و أن بعض الدعاة قد أصبحوا كنجوم الفن داخل الفضائيات بحيث أنهم يحتلون مكانة عالية لذا متتبعيهم و صارت الإتصالات تنهال عليهم كلما فتحوا بابا لتلقي الإستفسارات و التساؤلات, و نحن لا نذم هذا و لا ننكر ذلك عليهم و إنما ننكر و نندد بفحوى الخطاب و نوعيته حين يقدم الداعية للناس موادا إسلامية بعيدة أحيانا عن واقعهم المعاش, أو أنها لا تخدم مصالحهم الراهنة. و كما هو معلوم لذا الغالبية العظمى من دعاتنا المسلمين فإن وجوب الإقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم في تبليغ رسالة الله تعالى قد أضحى ضرورة ملحة و لا عذر لمن يخالفه و يستمر في تعسير المُيَسَّر للمسلمين و لعامة المتلقين من الناس, بل ذلك من أولى الأولويات حتى لا يتهم الإسلام بتقصيره و قصوره عن الإحاطة بالحياة العامة للناس. فالإسلام كمنهج رباني جاء بالتدريج و لا أحد ينكر ذلك إلا الجاحدون, و عليه فإن الدعاة ملزمون بالرجوع إلى تعميق الدراسة لإستخلاص الثابت من المتغير على أساس ملاءمة المتغير مع التطورات الإنسانية و الإجتماعية و الإقتصادية الآنية حتى لا نُغيِّب التاريخ و دوره في تغيير المسار البشري نحو التقدم و الرقي,و إلا فلن يكون للتاريخ معنى, و سنظل في حقبة العصر النبوي وسط سياج أعراف الأعراب بشبه الجزيرة العربية, و الناس يتقدمون من حولنا, و لن نملك سوى التعجب في ما يصلون إليه من خلال التصنيع أو الإستكشاف. لذلك فمن الواجب أن نُذكّر بسلبيات الخطاب الحالي التي نرصدها مسيئة لصورة الإسلام و المسلمين في غير مرة, و إليكم على سبيل المثال لا الحصر, خطابات بسيطة من واقعنا الحالي تؤثر على سلامة السير الدعوي بالعالم الإسلامي فضلا عن دول الغرب و بلاد غير المسلمين عامة: 1- تلميع صورة عصر الخلافة الراشدة: أكاد أجزم أن جل علماء الإسلام جعلوا من فترة الخلافة الراشدة عصرا ذهبيا لا يُكرَّر, و أن المسلمين مهما فعلوا و تعبَّدوا فلن يصلوا إلى مستوى الصحابة في العبادة و الورع, و التقوى و الرزانة و الحلم, و كذا في فضلهم و ثوابهم, و هذا أمر خاطئ من كل الجوانب, لأن الشيء الوحيد الذي يشكل الآن فرقا هو رؤية الصحابة للنبي و عدم رؤية المعاصرين له, أما القوانين التشريعية فلازالت بين أيدينا و تاريخهم ندرسه جيدا و نعلم حق اليقين محاسنه كما ندرك مساوءه, فلا ضرورة للكذب لهدي الناس إلى الإسلام, لأنه دين نصره الله بالصدق و لا ينبغي تلويثه بالكذب, كما أن الإنسان العادي في عصرنا الحالي بإمكانه رصد الوقائع التاريخية الحقيقية من خلال الشبكة العنكبوتية التي جعلت العالم قرية صغيرة, كما أن الرجوع إلى التاريخ الإسلامي سنجد أخطاء فادحة إرتكبها الصحابة أنفسهم في حق الرعية, و انتشرت في عهدهم مختلف أنواع الرذيلة و الظلم و لا أحد يذكر هذا, لكنه و للأسف مُدوَّن في كتب التاريخ, بل مارسوا الإرهاب الحقيقي بالتعدي على الشعوب المسالمة و سبوا أطفالهم و يتّموهم و استحيوا الناس و اتخذوهن للمتعة تحت لواء الإسلام, و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. و إن ما نؤاخذ الدعاة به اليوم هو تلميعهم لتلك الحقبة المريرة من تاريخنا الإسلامي, الأمر الذي ينعكس سلبا على من يكشف خداعهم له, و قد ارتد الآلاف من المسلمين بسبب كشف زيف و كذب بعض الدعاة سواء كان الأمر عن قصد أو عن غير قصد, بل في عصرنا الراهن من يحيط بالفقه الإسلامي أكثر من بعض الصحابة, و أذكر على سبيل المثال أن خالد بن الوليد لم يكن يحفظ من القرآن الكريم إلا بعض قصر السور, و لما سُئل عن ذلك قال: إنما شغلني عن ذلك السيف. 2- خلق قصص خيالية للتشجيع على العبادة: و هذه من أكثر ما ينفر الإنسان من الإسلام فور معرفته بخرافة القصة, و قد سبق أن ناقش مجموعة من العلماء هذه القضية و قد أفضى الجمهور في النهاية إلى ضرورة التمحيص قبل الإلقاء, , لأن تلك القصص تغيض المسلم بالفطرة فما بالك بالمقبل على الإسلام وحديثي الإسلام, و قد حُكيت قصص كثيرة مستندة إلى خرافات أحبار اليهود, لأن الإسلام كان في الفترة الأولى للرسالة جديدا, و كان المسلمون متشوقون لمعرفة الكثير عن دينهم, و كانت تغلبهم أنفسهم أحيانا فيسارعون لسؤال أهل الكتاب من اليهود و النصارى باعتبارهم أهل رسالة سماوية قديمة, أي أنها تحوي الحقيقي فقط حسب اعتقاد الكثير منهم, و قد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى أن المسلمين الأوائل كانوا يعتمدون على نقل القصص و الأخبار معتمدين على النصارى وعلى اليهود بشكل خاص فقال: ‘‘و قد جمع المتقدمون في ذلك و أوعوا، إلا أن كتبهم و منقولاتهم تشتمل على الغث و السمين و المقبول و المردود. و السبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب و لا علم و إنما غلبت عليهم البداوة و الأمية. و إذا تشوقوا إلى معرفة شيء .. فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم و يستفيدونه منهم و هم أهل التوراة من اليهود و من تبع دينهم من النصارى. و أهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم و لا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب و معظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية. فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية..و هؤلاء مثل كعب الأحبار و وهب بن منبه و عبد الله بن سلام و أمثالهم. فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم و ليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل. و تساهل المفسرون في مثل ذلك و ملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات.. إلا أنهم بعد صيتهم و عظمت أقدارهم. لما كانوا عليه من المقامات في الدين و الملة، فتلقيت بالقبول من يومئذ ‘‘. و لا ننسى حديث حسنه الإمام الألباني: " أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب حين رأى مع عمر بن الخطاب صحيفة فيها شئ من التوراة, فقال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آتِ بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي". و بذلك ندرك أن كبار الصحابة أنفسهم لم يسلموا من الأخذ من اليهود و النصارى, و نسج حكايات تشجع على العبادة حسب إعتقادهم, و هو أمر سرعان ما ينعكس سلبا على صورة الإسلام و واقع المسلمين. 3- رفع الجهاد كشعار لمن يخالف الشريعة: حتى لا نقع في الخطيئة لابد من التأكيد على أن الجهاد له ضوابطه و شروطه, و ليس من حق أحد أن يرفع هذا الشعار و لا أن يغري الشباب به مهما كانت الظروف, لأن الجهاد لا يُسَن إلا في حالتين اثنتين هما: في حال هجوم العدو على أراضي المسلمين لإحتلالها و استعباد شعوبها ظلما و عدوانا, ففي هذه الحالة يصير الجهاد فرض عين على كل من توفرت فيه الشروط الأساسية للجهاد, و أما الحالة الثانية: فقد حددها العلماء في وجوب الجهاد عندما يدعو إلى ذلك الحاكم, و لا أميل لهذه الأخيرة صراحة, لأن الحاكم قد يكون ظالما أو فاجرا, لذلك لابد من ربط الحالة الثانية بسداد الرأي و دراسة الأمر قبل تنفيذه. و الجهاد في عصرنا الحالي هو جهاد النفس و الدعوة إلى الله تعالى, و نشر الفضيلة و دحض الرذيلة, و احترام الإنسان من حيث هو إنسان و ضمان حقوقه كاملة بغض النظر عن عقيدته و توجهه و إيديولوجيته, و حينما نصل إلى هذا المستوى فحتما سيحب الآخرون أن يتشبّهوا بنا و سيرغبون في ديننا, و بما أننا لانزال بعيدين عن ذلك فلا أظن أن مصطلح الجهاد يخدم الإسلام في الوقت الراهن. 4- التشدد على المسلمين: و قد كثر أهل هذا المنهج حتى تحزّبوا و سموا أنفسهم و ميّزوها عن غيرها, و هذا المنهج منهج إقصائي تشددي متطرف, يزرع بذور التعصب و الكراهية بين أبناء الدين الواحد, و لا يخفى علينا أن كل من يُصعِّب أمور المسلمين عليهم و يسعى لتضييق دائرة المباح فهو متشدد و هو بذلك يزعم الصواب لنفسه و يدّعي الخطأ لغيره, لدرجة أن بلغ اليقين ببعضهم أنهم مُفَوَّضون من طرف الله تعالى للتحكم بحيوات الناس و حسم مصائرهم, و شتان بين العبد المنفتح الصالح و بين من هو منغلق على نفسه, مُنفّرا بحاله من دين الله , حيث يعيش متزمّتا داخل دائرة ضيقة و لا يملك أن ينظر حواليه ليدرك حجم البوثقة التي تؤطّره. 5- تغليظ الخطاب: و نجد هذا الأمر لذا بعض الخطباء المعروفون بمحدودية معارفهم, و قلة علمهم, فيُركّزون على جانب تغليظ الخطاب, و ضرب المنبر لصرف الأذهان عن تحليل أقواله, و جعل الناس يسلمون بصحة ما يقوله و يدعوا إليه, و نحن ندرك يقينا أن الصراخ علامة على عدم القدرة على التعبير عن مكبوت, أو عدم امتلاك أدوات البرهان و قلة العلم بالمحاججة, و هذا الخطاب لا يصلح ليكون دعويا بالرغم من أنه يجذب الكثير من المسلمين فقط, و ذلك لأن الإسلام دين حق و لا يحتاج للصراخ لإثبات صحته أو إرغام الناس على إتباعه, لذلك لابد من تجنب هكذا خطاب. الأمثلة كثيرة و لا يسعنا ذكرها بالإجمال و نحن لا نريد سوى لفت الأنظار لمكمن الداء لوصف الدواء, و سوف لن نستطيع الإحاطة بها في مقال, لأن الأمر يحتاج ساعات معدودات من النقاش قصد تشخيص الإشكال بصورة واضحة. على الرغم من المحاولات الكثيرة لتجديد الخطاب الديني المعاصر, نجد أن أعداء الإصلاح و التنمية الفكرية يقفون وسط الطريق لصد جميع المحاولات التنويرية و فرض وصايتهم على الأمة, و هو ما ينعكس سلبا على واقع المسلمين كافة, و حالهم اليوم كفيل برصد نظرة شمولية على سلبيات خطابهم الحالي, بحيث نرى أنه بقدر التشدد في الأمور التافهة بقدر ما يتفشى التخلف داخل المجتمع, و انظر إلى المملكة العربية السعودية كمثال, و لكم أن تتخيلوا حجم الكسل الذي ينخر الشعب الإسلامي هناك في الأراضي المقدسة, بل لولا سواعد الهنود و الفلبينيين و العمال الشرق أسيويين عموما لما كانت السعودية كما هي الآن, لأنهم ببساطة يعتبرون أنفسهم ملوكا ديكتاتوريين, و أن على غيرهم الخدمة و التعب و المشقة و أن لهم الراحة و التنعم و السفر لبلاد أخرى للفساد و الإفساد, و قلما تجد أحدهم مرتبط بفكر بنّاء, لأن الأغلبية العظمى يطغى عليه الحلم العربي الذي كرّسه الخطاب الديني المُعوجّ, و الذي يرتكز على الشهوة أكثر من التعقل, فيغري الناس بالحور العين و المناظر الخلابة و القصور بالجنة, و يثنيهم عن التفكر في ملكوت الله تعالى و إعمال عقولهم للوصول إلى برّ الأمان عن علم لا عن مجرّد تلقٍّ أو جهل أو شك.