حل فصل الربيع ،وازهرت الارض واينعت، واخدت طريقي كما العادة في بعض العطل الربيعية السابقةالى احدى القرى السياحية التي تقع في عمق الجنوب الشرقي للبلاد لحضور مارثون الرمال. ومن مدينة سياحية كبيرة ذات صيت عالمي الى قرية أخرى حيث العثور على وسيلة نقل يعتبرنوعا من ضربة حظ ، أثار انتباهي سائح أجنبي فرنسي الجنسيةوهو يطلب من السائق صاحب الفاركو مرسديس 207 شحنه يوم السوق مع السلع و الركاب المحليين بالمجان في اتجاه القرية السياحية التي سيحل فيها العداؤون.. لبى السائق بكل اريحية مغربية أصيلة طلب السائح، فكل السائقين في المنطقة الهادئة لا يبخلون على الذين تقطعت بهم السبل بالمساعدة. ورغم هذه الصفة الحميدة لدى كل السائقين بالمنطقة والتي يعرفها الجميع ،تعجب بعض الناس بالمقابل من طلب السائح وسماه احدهم ب"السائح المفلس" ..مع رحلة هذا السائح، ادركت ان وراء سلوكه اللغز قصة مثيرة يجب ان أعرفها..ومنذ ذلك الحين وأنا اقرأ واسأل الناس لعلي أهتدي الى السر الذي حمله على ذلك الطلب البسيط الذي لايكلف صاحب الفاركو شيئا.نعم ،رأيت سواحا كثر فقدوا محافظ نقوذهم وأرواق هويتهم ولم ينزلوا الى هذا المستوى،وهذا ماجعلني ابحث في الموضوع من باب الاستزادة في العلم دون ان اهتدي الى جواب يقتعني أويصلح لفهم سلوك السائح المغمور ..مرت السنوات حتى قرأت صدفة القصة التي سأعرضها عليكم لتعميم الفائدة ،وهي قصة حقيقية جعلتني اضعها كفرضية محتملة تصلح كجواب لفهم سلوك السائح الغريب الاطوار الذي صدفناه على الطريق والقصة كما يلي: سمعت وعايشت بل وصادقت الكثير من البخلاء، وقرأت ما كتبه (الجاحظ) عنهم، غير أنني لم أجد بعد كل هذا العمر التعيس بخيلا أكثر بخلا من رجل (اسكوتلندي)، أراد أن يجسد ميزة هذا الشعب وهذه الفئة التي اشتهرت بها خير تمثيل وتجسيد، وذلك عندما خاض رهانه على أنه سوف يعيش سنة كاملة دون أن يصرف (بنسا) واحدا، ومع أن ذلك الرجل كان متعلما ويستطيع العمل ويحصل على راتب مجز، إلا أنه ضرب بشهادته في عالم الاقتصاد وبعمله عرض الحائط، وقرر أن يخوض هذه التجربة الفريدة القاسية التي لم يسبقه إليها أحد. كان لديه (كرفان) متهالك بالقرب من مدينة (باث)، يزرع حوله بعض الخضراوات ليأكل منها، كما أن لديه دراجة هوائية يركبها كل يوم ليتجول بها في الشوارع من أجل الرياضة على حد قوله، وكذلك من أجل أن يمر على صناديق النفايات ليأخذ ما هو صالح فيها من أغذية وملابس، وكثيرا ما التقى أثناء جولاته ببعض أصدقائه، وهو لا يتردد في تلبية دعواتهم له في مطعم أو مقهى أو حانة، ويستغلها فرصة لأخذ من تلك الدعوة المدفوع ثمنها بواقي الأكل والشراب، ولا ينسى وهو خارج أن يمر على (الحمامات) ليتزود ببعض ما تيسر من الصابون لزوم التنظيف، وهو يعتمد في مسكنه على لوح للطاقة الشمسية في تسخين مياه الاستحمام والإضاءة، والغريب أنه لم يمد يده يوما لكي يشحذ، وليس لديه تلفزيون أو راديو، فأخبار العالم يقرأها في الجرائد التي ينتشلها من صناديق الزبالة، ويحاذر كل الحذر أن تكون له صديقة، لأنه يخشى كل الخشية أن يضعف أمامها فيعزمها أو يصرف عليها، وقرر قرارا لا رجعة فيه أن يعصم نفسه من النساء نهائيا. والآن مرت عليه سنة كاملة ولم يصرف فعلا ولا بنسا واحدا وكسب رهان من تحدوه بذلك، غير أنه لم يأخذ مبلغ الرهان ويضعه في جيبه، ولكنه فتح له حسابا في البنك وأودعه فيه. وعندما جاءت إلى مقره وكالة أنباء ألمانية تهنئه على ما فعل، قال للمندوب: إنني فخور بنفسي لأنني استطعت أن أحقق هذا الإنجاز، وما زلت عازما على العيش بهذه الطريقة دون أموال، وذلك إلى أجل غير مسمى. وخطوتي التالية بعد أن دخلت سنة (2013) أن ألف العالم بما تبقى من عمري دون أن أصرف كذلك ولا بنسا واحدا. وقال للمندوب وهو يضحك: هل تصدق أنني خلال تلك السنة الماضية،أي2012، لم تمسك يدي أي عملة نقدية؟! بل إنني نسيت حتى أشكالها. فقال له المندوب: إن الوكالة تريد أن تعقد معك صفقة مالية كبيرة، وهي أن تكتب مذكراتك في كتاب لتحصل هي على حق توزيعه. فوافق ووقع العقد معهم، شريطة أن يوضع ذلك المبلغ في حسابه، وبعد أن يموت يوزع بالتساوي على المشردين في الشوارع. ويقال إنه كتب وصيته أمام محام، وأودعها البنك. انتهت قصة البخيل الاسكتلاندي،ولنعد الان الى قصة سائحنا الفرنسي المغمور. إن ما عزز فرضيتي وجعلني أعتقد أن السائح الذي استقل معنا الفاركو مسافة أكثر من 80كلم أنه سائج بخيل من طينة هذا السائح الاسكتلندي كما اسلفنا،هو قبوله بالطعام البارد الذي ناوله إياه احد المسافرين حين طلب من الناس في الطريق شيئا يسد به رمق جوعه،بل أكثر من ذلك طلب من السائق ان يدله على فندق اومقهى تأويه و يمكن أن تستجيب لطلباته البسيطة بنوع من المرونة على حد قوله..وما اذهل الركاب في سلوكاته الغريبة الاطوار والتي تحمل نوعا من التحدي واللامباة ، رغم الجوع، ورغم متاعب الطريق، عزفه بين الفينة وأخرى على قيثارته الحانا فرنسية عذبة، وهو يغني مبتسما كأن شيئا لم يحدث والناس ينصتون اليه وهم يسمونه ب"السائح البخيل المفلس "؟