سالت نفسي مرات عديدة وأنا لا زلت صغيراً : أين توجد جهنم ؟ كنت أسمع عنها ، ولكنني لم أكن أعلم مكانها . وفي أحد الأيام ، لجأت إلى إمام المسجد الذي كان يُدارسنا القرءان ، فأجابني على الفور : ولِم تسأل عنها ؟ أنتم وجوهها وآباؤكم يسكنون فيها وهم حطبها ، فلا داعي للبحث عنها بعيداً . علمت آنذاك أن جهنم هي ذاك المجال الترابي الصغير الذي كنا نعيش فيه . صدق الرجل القول ، واقتنعت أكثر عندما سافرت لأول مرة إلى المدينة إثر حصولي على "شهادة الخامس". "الفقيه" السي محماد هذا ، كان من الآدميين الجلادين الذين كانوا يحبون أن يروا أثر نعمة العصا على جلود الأطفال الصغار . في المساء قبل مغادرة المسجد ، وحسب النظام المعمول به ، نمر واحداً تلو الآخر من أمامه وهو جالس متربع على جلد تيس أسود ، لاستظهار المكتوب على الألواح الخشبية . لحظات شبيهة بيوم الحساب ، من استطاع الحفظ فقد فاز ونجا ، والبقية تُحمل من الأيدي والأرجل وينفذ فيها "الفقيه" حُكمه تحت أنظار الأقران وبمباركة من الآباء الجهلة . كان دائماً يقول مبتسماً : " احملوه " ، أمر يُعلم وينفذ على الفور . لا أنكر أنني نلت نصيبي وفيراً موفوراً غير ما مرة ، فكثيراً ما أكون حافظاً يقناً ، ولكن ينمحي كل شيء من ذاكرتي الملعونة بمجرد المثول أمامه. وعندما يأتي دوري في الحمل والجلد كان دائماً يقول : ها أنت اليوم ستزور جهنم. ومؤخراً ، نبشت في ذاكرتي الصغيرة لأعود إلى مرحلة ما قبل المدرسة وأقف أمام "الفقيه" السي محماد ، ثم تذكرت جوابه عن مكان جهنم . اليوم ، لا أحتاج إلى جوابه ، أصبحت أعرف بالفطرة عنوانها ، بل لها عناوين كثيرة . هي موجودة في بيوت غالبية أهالي بوادينا وجبالنا حيث لا يزال بعضهم يسكن شبه الجحور والأجحار والأوجرة مثل الضواري، موجودة في القبور القصديرية التي كانت ولا تزال من نصيب كثير من الناس، موجودة على أجبن المعوزين ، في مدننا وحواضرنا ، الذين دفعهم العوز والحاجة إلى التسول وامتهان السرقة وأشياء أخرى، موجودة على حال أولئك الفتيات والنساء اللائي دفعتهن قلة ذات اليد والتمسك بالحياة إلى بيع لحومهن علناُ وخلسةً، موجودة على وجوه المرضى الذين فضلوا ، مُكرهين ، التعايش مع مرضهم، موجودة في جيوب صغار الموظفين والعمال الذين لا تتعدى قروش رواتبهم اليوم الخامس من الشهر الموالي، هي حال الكثيرين منا ، عندما نصطف في طوابير طويلة لتسلم صناديق الإعانة في كل شهر رمضان ، ليعود الكثيرون دون حتى تحقيق هذا الحلم ، هذه الصناديق التي لا تتعدى قيمتها دريهمات قليلة، قال لي أحد الرجال ذات مرة : " أنا أعيش في جهنم التي ورثتها عن آبائي وأجدادي ، وهذا قدري وحظي العاثر منذ ولادتي ، وسيكون الله ظالماً إذا حاسبني وأدخلني جهنم الأخرى ". أحمد أوحني 0679800995 0649760610 [email protected]