استيقظت متأخرا على غير العادة،قصدت المطبخ وتناولت كوب شاي وقطعة خبز شعير،ثم خرجت لتو إلى الحقل لمساعدة أبي متأبطا منجلا وفأسا وبعضا من لوازم العمل.وما إن انهمكت في الحرث لدقائق معدودة حتى أبصرت والدتي آتية بالغذاء،ففي العالم القروي يشتغل الكل على قدم وساق كلما حل موسم معين )الحرث الحصاد جني اللوز والزيتون ...( دون تمييز بين السن والجنس،فالجميع يشارك ويتعاون لتعزيز دخل الأسرة على محدوديته. تناولنا وجبة الغذاء مفترشين الأرض وحتى دون أن نغسل أيدينا لان يد الفلاح نقية كما يقولون،وسط جو هادئ وصامت يسود قرانا ولا يكسره إلا أصوات الماسكين بمحاريثهم في كل حدب وصوب وهم يحدثون حميرهم أو بغالهم،وأيضا الهواء النقي الذي تشمه أنوفنا والذي يختلف كثيرا عن ذلك المتطاير في أجواء المدن... تركت والدي يتجاذبان أطراف الحديث عن شؤون البيت وعن الحاجيات التي تخص المطبخ لاسيما وان يوم الغد هو يوم السوق الأسبوعي. اتجهت صوب المحراث الخشبي الذي يجره حماران،أحدهما أشهب والأخر لونه مزيج من البياض والزرقة،وحالهما يوحي بأنهما تعبان وتمنيا لو أني أضفت لهما بعض الدقائق للاستراحة أكثر. أمسكت المحراث الخشبي بيساري والعصا بيمناي وأمرتهما بالتحرك ولم يشقا عصا الطاعة عن أمري وسارا بثبات ليكملا الخطوط التي رسمتها السكة بإتقان. ولا أكاد أمل من النظر إلى الأرض أمامي والسكة تشقها دون توقف،لكن بالمقابل انزعجت لصوت جرار يقترب من حقلنا تتبعه مجموعة من اللقالق تبحث لنفسها عن ديدان ارض تسد بها رمقها وربما حملتها إلى صغارها. ثم واصلت الحديث مع حماري تارة أمرهما بالتوقف فيقفا، وتارة أخرى أمرهما بالطلوع شيئا عن الخط فيفعلا،وان قلت لهما بان ينزلا شيئا ليستقيم الخط جنحا إلى أسفل،وان صحت لهما بالرجوع والبدء في خط جديد لا يترددا في الرجوع. هنا ساورني شك خطير من أن المقولة الفلسفية التي تقر بكون اللغة خاصية إنسانية مالها التفنيد. طالما أن الحمير وهم من صنف الحيوان طبعا يعون ما أتفوه به ويسارعون للاستجابة لحديثي معهم،وساد لدي الاعتقاد بان هذه الاستجابة لا تكون إلا بعد استعمال حميري لتفكيرهم، وفي ذلك إشارة منهما لي بأنهم يفكرون إذن فهم موجودون وأنهم معنيون بمقولة ديكارت -أنا أفكر إذن أنا موجود - بيد أنه سرعان ما تذكرت قوله عز وجل: )إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذي لا يعقلون ولو علم فيهم خيرا لأسمعهم ولو اسمعهم لتولوا وهم معرضين (. وهو ما بدد لي كل المتاهات السالفة لكن بالمقابل لم يمنعني من التفكير في مصير الفلاحين الصغار بهذه المداشر التي تفوح منها رائحة الفقر والتهميش،وتبدو أنها بحاجة لتفعيل برامج واستراتيجيات التنمية،كيف لايمكن أن تصاب بالإحباط وأنت تزرع قمحك وشعيرك دون أن تستطيع أن ترفقه بالأسمدة الضرورية للحصول على إنتاج وفير والمغرب احد أول المنتجين للفوسفاط في العالم ودون أن يستفيد هؤلاء الفلاحين من أي دعم من الدولة في هذا الإطار. في اليوم الموالي امتطى والدي الحمار الأشهب صوب السوق بينما امتطيت الأخر الذي مزيج لونه بين البياض والزرقة وقصدت البئر لجلب الماء، ولما انتهيت من تزويد الماشية بوجبة العلف والماء،أويت لظل شجرة لوز قرب المنزل فأثارني منظر ديك كبير وهو يصدر صوته لباقي ديكة ودجاج الحظيرة ليلتحقوا به لاقتسام كعكة عثر عليها - ما هي إلا حبات شعير- شرد ذهني للحظات قبل أن أتأمل جيدا ما أراه من موقف يترجم نزعة موضوعية للتضامن والتآزر بين الطيور والمفتقدة في صفوف بني ادم هذه الأيام. لكن بديهي انه في عالم الحيوان تسيطر الوحوش على الحيوانات الضعيفة كما تهيمن الجوارح والكواسر على الطيور الصغيرة وهو ما أقدم عليه ذات الديك العطوف الذي سرعان ما أبرز الوجه الأخر لأي مخلوق وكرس قانون الغاب أي البقاء للأقوى وكال بمكيالين كيف ذلك؟ فبمجرد أن أصدر صوته المعبر عن إيجاده للطعام مع رغبته في أن يشاركه فيه باقي الدجاج حتى سارع هؤلاء للالتفاف من حوله. وفي هذه الأثناء رفرفت دجاجة على عدة حواجز وما إن حطت قدميها بمقربته حتى سارع ديك نحيف اقل حجما وقوة منه ليواقع الدجاجة. لم يلبث الديك مصدر الصوت أن هاجمه على الفور،ليشمر الديك النحيف على جناحيه لئلا أقول قدميه مرفرفا إلى احد أغصان شجرة اللوز المجاورة ولما أنس الثقة في نفسه وهو يعتلي قمة الشجرة أطلق صيحة لم افهم لغزها لعدم درايتي بأصوات الطيور ولا أنكر أني دندنت قائلا ماذا لو كنت سليمانا لأظفر بتفسير صريح لصيحته ورسالته المشفرة نحو الديك المستأسد الذي تسمر قرب جذع الشجرة دون رد فعل،تساءلت لماذا لم يلاحقه للأعلى ويقتتلا حتى يسقط احدهما وينبش المنتصر الأرض ليواري خصمه الثرى أسوة بالغرابين المقتتلين اللذان أسديا عبرة لقابيل وهو الذي قتل شقيقه وغم عليه حل التخلص من جثمانه، الم يكن الاقتتال إذن ماركة مسجلة ليس للبشر وحده ؟ ولكن حتى لباقي خلق الله. بيد أن الديك الأول قد قرأ حساباته جيدا ووضع رهن الحسبان إمكانية المطاردة والتحليق التي قد تكون وخيمة العواقب لذا تريث واستحسن الركون إلى أن تتضح الرؤية، بعدها هب لحال سبيله ينقب عن كلأ يملأ به حنجرته،ليعلن الديك الفار بجلده قهقهة النصر من أعلى الشجرة بارتياح كبير. أما الدجاجة التي أججت الصراع بين الديكين فواصلت إصدار صوتها لتجذب الديك ليواقعها لتظفر ببيضة. مضت أيام قلائل ولفت انتباهي غياب الديك المستأسد عن حظيرة الدجاج،استفسرت عنه والدتي فردت بان باعته يوم السوق ليتأتى لباقي الدجاج الصغار أن يكبروا في امن بعيدا عن شراسة ذلك الديك. يوميات من صميم الواقع خريف 2005