القصة الكاملة لذبيح الله إسماعيل (أصْدَقُ الوعد) أيها الشباب: لا يخالف أحد في أن كل الأنبياء والمرسلين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، كلهم صادقون فيما وعدوا به ربهم عز وجل من الطاعة والامتثال، لكن وصف الله تعالى نبيه إسماعيل بهذا الوصف خاصة، يدل على معنى زائد، ومرتبة فاضلة، قال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (1) . فنبي الله إسماعيل موسوم عند ربه بصدق الوعد. لأن الإنسان، أي إنسان، قد يصدق في وعده مع غيره، في بيع أو شراء أو منفعة، (لكن إسماعيل صدق الوعد في حياته التي هي أغلى شيء عند الإنسان)(2) ، وهو لم يتوانى ولم يتردد أن يستجيب لأمر ربه، ويقدم روحه للذبح. حَدَثَ أن رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام رؤيا في المنام، رأى أنه يعالج ابنه إسماعيل ليذبحه، وكانت تلك إشارة من الله تعالى له، (مجرد إشارة، وليست وحياً صريحاً، ولا أمراً مباشراً، ولكنها إشارة من ربه، وهذا يكفي ليلبي ويستجيب) (3) . لقد أمره ربه عز وجل أن يذبح ولده، لحكمة عظيمة، وغاية نبيلة، قد لا يدركها بعض ضعاف الإيمان، الذين لا يدركون حقيقة التوحيد، وأبعاده وغاياته. ألم يكن إبراهيم عليه السلام خليلا لله؟ وقد قال الله تعالى في حقه: {وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (4)؟! والخليل هو المحبوب بحق، فلا يجوز بحال أن ينصرف قلبه أو جزء من قلبه إلى غير محبوبه. قال الشيخ السَّعْدي في هذا الشأن: (فإن إسماعيل عليه السلام لما وهبه اللّه لإبراهيم، أحبه حبا شديدا، وهو خليل الرحمن، والخلة أعلى أنواع المحبة، وهو منصب لا يقبل المشاركة، ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب، فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل، أراد تعالى أن يصفي وُدَّه ويختبر خُلَّتَه، فأمره أن يذبح من زاحَمَ حبُّهُ حُبَّ ربه، فلما قدّم حبَّ اللّه، وآثره على هواه، وعزم على ذبحه، وزال ما في القلب من المزاحم، بقي الذبح لا فائدة فيه)(5) . إنه درس في إخلاص المحبة والمشاعر، يتألق أبو الأنبياء إبراهيم وولده إسماعيل في الوفاء فيها لله رب العالمين. وَلْيَنْظُرْ أهل الأهواء، وأتباع الشهوات، وَلْيَسمعوا أدب الطاعة والامتثال لأمر الله كيف يكون! هؤلاء الذين يسْعَوْنَ بالليل والنهار لإرواء نزواتهم من النساء، وملء بطونهم من المشارب والمطاعم، حتى إذا نودي للصلاة اتخذوها هزءا، وقالوا في أحسن أحوالهم: إن الإيمان في القلب، وكذبوا، فلو كان الإيمان الصادق ساكنا في قلوبهم ما عصوا أمر ربهم الذي حرم عليهم الفاحش ما ظهر منها وما بطن. لقد دُعِيَ إسماعيل وهو ابن الثالثة عشر من العمر، لتكون روحه قربانا يتقرب بها أبوه الشيخ الكبير، الذي ناهز الستة وثمانين سنة، يتقرب بها إلى ربه عز وجل طاعة وانقيادا. وقال الابن الصغير في ثقة المؤمن الواثق بربه: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}(6). إلى هذا الحد، وفي سنين قليلة، استطاع نبي الله إبراهيم أن يربي ولده إسماعيل، ويحسن تأديبه، فيستجيب لطاعة الله، ويلبي نداء الله. فإذا كان الله تعالى هو الآمر، فعلى الأب أن يمتثل أمر الله، وعلى الابن أن يستمطر العون والصبر من الله. وكم في مجتمعنا من أبناء في مثل سن إسماعيل عليه السلام أو يزيد، لا تزال رياح الطيش تستميل عقولهم، ولا تزال أرواحهم تستهويها لُعَبُ الأطفال، لا تكاد تشهد لأحدهم بأدب أو حسن خلق. وما لهم في ذلك من ذنب، فإنهم ينفقون فَحَسْب، مما عند آبائهم وأمهاتهم ومجتمعهم. إنما الذنب ذنب أولي العقل والنُّهَى من رجال المجتمع ونسائه، الذين يزعمون أنهم يحبون الله ورسوله، ثم لا يجدون غضاضة أن يقعوا فيما حرم الله ونهى عنه، ويتركوا ما فرضه وحث عنه، ولو دعي أحدهم إلى الإنفاق من وقته للصلاة، أو من ماله للزكاة، لوجد ما يغنيه من المعاذير، وما يملأ السماء فوقه والأرض تحته من الحجج والتَّعِلاَّت. أما إبراهيم وإسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإنهما استعذبا طاعة الله عز وجل، واستلذا الانقياد لأمره، قال سبحانه: {فلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}. لقد أسلما حقا، فالإسلام هو الانقياد والطاعة. ويذكر بعض المفسرين أن الشيطان لعنه الله جال جولة في ساحة المشهد المفزع، وطرق كل الأبواب، وسعى سعيه أن يثني الولد أو أمه أو أباه، لكنه قوبل في جميع محاولاته بالصد والحجارة، وتلقى سبع حصيات هنا، وسبعا هناك، حتى خَنَس ومضى خائبا ذليلا. وتقدم الأب لأداء المهمة الصعبة، ودنا الابن للفداء. بدم بارد كما جرت به اللغة في عصرنا هذا. أَضْجَعَهُ الأب على وجهه، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}. والجبين أحد طرفي الجبهة،. فَعَلَ ذلك حتى لا ينظر في وجهه الزكي، فتتأذى فطرته النقية بأقسى ما يمكن. ويا ليت المهمة أسندت لشخص آخر غيرِ أبيه، فربما هان عليهما العذاب معا، ولكن الله تعالى أراد أن يكون البلاء صعبا، والدرس بليغا لمن سيأتي بعد، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}. لقد أراد الله عز وجل أن تخرج حظوظ الدنيا من قلبيهما معا، وأن تخرج حظوظ النفس من النفس، فلا يبقى إلا حب الله صافيا نقيا يملأ القلب كله. فلما صدقا في طاعتهما لله رب العالمين، وتم المقصود الذي من أجله جاء الأمر من الله سبحانه، أسرع قدر الله بالتكريم والإحسان، وجرت إرادة الله أن يكون ذلك المشهد تذكرة إلى يوم الدين، قال سبحانه: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}(7) . فما أطيب هذا العيد على العباد المؤمنين، وما أكرمه وأجله. وأحسن الأستاذ سيد قطب في تعليقه إذ يقول: (ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان، وجمال الطاعة، وعظمة التسليم، والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم، الذي تَتْبَع ملَّتَه، والذي ترِث نسَبَه وعقيدَته. ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها، ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية ... ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئاً، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم!) . والسلام عليكم الهوامش : - [مريم:54] - قصص الأنبياء والمرسلين للشيخ الشعراوي، ص 133 ط: 2/ 2001م - في ظلال القرآن - (ج 6 / ص 188) - [النساء : 125] - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 706) - [الصافات:102] - [الصافات/103-111] - [في ظلال القرآن - (ج 6 / ص 190)] الأستاذ : سعيد المنجا الخميس:06 ذو الحجة 1432ه/ 03 نونبر، 2011م مدينة أفورار