فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالة من بعيد
نشر في أزيلال أون لاين يوم 02 - 08 - 2010

في البداية استأذن القارئ الكريم لأزعم أنّ هذه المقالة إشارة تحمل في مضمونها رسالة تؤكّد على أهمّيّة التّعارف والاعتراف، وعلى قيمة التّواصل والتعاون، وتدعو إلى نبذ العنف بجميع أشكاله احتراما لقيم حضاريّة وإنسانيّة هي من صميم شريعة الإسلام وأخلاقه السّمحة التي يبيّنها قوله تعالى: (يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)، فلا أخفي سرّا أنّه قد راعني ما لاحظت من أمّيّة مكعّبة ومن جهل كان يطلّ برأسه بين أسطر تعليق ظلّ ينسخ نفسه بين عناوين إلكترونيّة وأسماء مستعارة ليؤكّد في كلّ مرّة قاعدة \"كلّ إناء ينضح بما فيه\"، فوجدت أنّ أسّ القضيّة هو ضيق الأفق الثّقافيّ وسطحيّة المعرفة بالمذاهب الإسلاميّة وبالنّصوص المؤسّسة لها، وازدراء لكتب التّراث التي لم يطّلع منها صاحب ذلك التّعليق الذي يستحقّ الشّفقة في واقع الأمر سوى على ما ذكر \"في نزهة الخاطر\"، وبما أنّني واحد ممّن يمتلكون حلم وحدة الأمّة ويسعون بصدق وقناعة راسخة إلى مساندة أيّ جهد للإصلاح، فإنّني أردت أن أتطوّع بتعريف المشهد الإصلاحيّ الدّيني في إيران للتّنبيه إلى جدوى التّواصل بإيجابيّة مع تفاعلات فكريّة وثقافيّة تكاد أن تكون غائبة عن ساحتنا العربيّة للإلمام بها والاستفادة منها إبقاء على الجهد المبذول في مجال التّقريب بين المذاهب، وعلى الله قصد السّبيل.
من المعروف أن إيران كانت سنّيّة المذهب على امتداد القرون الثّمانية أو التّسعة التي تلت الفتح الإسلاميّ وإلى أن تأسّست في القرن العاشر الهجريّ السّادس عشر الميلاديّ الدّولة الصّفويّة، التي اعتبرت نقطة حاسمة في تشيّع إيران الذي كانت له آثار بعيدة في تاريخ هذا البلد خاصّة وتاريخ العالم الإسلامي عامّة، لقد استثمر الصّفويّون المؤسّسون الظّروف السّائدة لصالح دعوتهم، وهي ظروف تميّزت في المجمل وفي عموم الأمصار بالطّقوس البدعيّة وشطحات الصّوفيّة وبالميل عن التّوحيد جماع عقيدة أهل السّنّة والجماعة، لذلك دعا المجدّدون عبر العصور إلى التّمسّك بثوابت عقيدة السّلف، ونادوا بالعودة إلى الأصول المجمع عليها بين عموم المذاهب، ومن ثمّة بإحياء الإسلام الذي كان سائدا في عصر النّبوّة والخلافة الرّاشدة. فنتيجة لانتكاسة التّوجّه المدنيّ الذي أخذت به الدّولة النّبويّة ثمّ سار عليه حكم الرّاشدين فيما بعد نشأ الخلاف حول الإمامة ليأخذ لبوسا فكريّا بمرجعيّة كلاميّة ابتداء، ثمّ ما لبث أن تطوّر الأمر في مراحل مختلفة ليصبح صراعا عقائديّا يأخذ مظهر النّزاع المسلّح بين الحين والآخر، ما أحدث شروخا عميقة في وعي الأمّة وضميرها الجمعيّ، وبفعل الحرص الذي أبدته الدّولة الصّفويّة على استثمار الاتّجاهات (القومجيّة/الشّعوبيّة) زاد التّعصّب للعشيرة والقبيلة استفحالا، وجرّ على المسلمين التّراجع عن أسس السّياسة الشّرعيّة في عموم الأمصار فتنا عظيمة ومحنا جسيمة أفضت إلى تقهقر دولتهم وضعف شوكتهم، تلك الأسس المتمثّلة في العمل بمبدأ الشّورى الذي أخضع وليّ الأمر أو السّلطة التّنفيذيّة بالتّعبير المعاصر لرقابة مجلسين انتخبا وقته من قاعدة شوريّة تكوّنت من المهاجرين والأنصار، وهما (مجلس النّقباء أو العشرة المبشّرين الذين شهدوا بدرا) ثمّ (مجلس السّبعين)، وهو نفس المبدأ الذي ألزم كلّ من وقع عليه اختيار أهل الحلّ والعقد لتولّي منصب الخلافة بعرض برنامجه السّياسيّ للمناقشة في جلسة عامّة مفتوحة لأجل المصادقة وإبرام بيعة بعقد حقيقيّ مكتوب مثّل وما يزال أبرز المظاهر العمليّة لسيادة الأمّة على نفسها، كما فرض بحقّ استقلال القضاء واستقلال مؤسّسة الحسبة مراعاة لمبدأ الحياديّة والتّوازن في ممارسة السّلطة، وأوجب على الجميع حاكمين ومحكومين سواء بسواء تعظيم الولاء لله والرّسول بوصفه شرط إيمان وحزام أمان، وتعظيم الولاء للأمّة ولدار الإسلام من حيث هو تعبيرٌ عن المواطنيّة المنشئة للحقوق والواجبات الفرديّة والجماعيّة وإبرازٌ لمسئوليّة المشاركة في تدبير الشّأن العامّ وبلورة القرارات المناسبة في الوقت المناسب بالشّكل الذي يدرأ التّسلّط ويقطع دابر الفتنة ويقمع الحكم المطلق. ولعلّ حرص الصّفويّين على تكريس توجّهات الإمارة \"الأليخانيّة\" في المجالات السّياسيّة والثّقافيّة إبّان تأسيسها بُعيْد سقوط حاضرة الخلافة العبّاسيّة سنة 656ه زاد الأمر صعوبة وتعقيدا، إنّ هذه الإمارة المغوليّة التي أسّسها وتولّى عرشها السلطان محمود غازان سنة (694ه/1295م) متّخذا تبريز عاصمة، ومُصْدِرًا أوّل مرسوم ينصّ على أن الإسلام هو دينها الرّسميّ، متأثّرا في ذلك بعادات وتقاليد وأفكار من كان حوله من الوزراء والمستشارين الشّيعة، قد تقلّبت تحت حكم العديد من الملوك المتعصّبين من بعده بفعل تحوّل السّلطان أولجايتو إلى المذهب الشّيعيّ سنة (709ه/1301م) حيث ألزم بمذهبه الجند وعموم أهل الإمارة إكراها وقسرا، وما إن دبّ الضّعف في الدّولة الأليخانيّة حتى نشأ الانقسام وشبّ التّناحر والقتال، فكانت أقاليم إيران هي السّاحة المفتوحة لتلك المواجهات والحروب الدّامية التي استمرّت إلى أن جاء تيمورلنك بجحافله الجرّارة ليتمّ البقية الباقية من مظاهر العمران والمدنيّة التي نجت من همجية أسلافه
لقد كانت للهجمة التتاريّة آثار واضحة على الحضارة الإسلاميّة وشواهدها الإنسانيّة برزت فيما تعرّضت له معالمها من تدمير، وما أفضت إليه من ظروف سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وفكريّة ساهمت وبشكل كبير في انتكاسة النّهضة العلميّة والمدنيّة التي اشتهرت بها فارس في المجالات المختلفة والتي تفوّقت فيها على سائر البلاد والأمصار، ومعنى ذلك أنّ إيران لم تعد تنعم بالهدوء والاستقرار منذ منتصف القرن السّابع الهجريّ، حيث كان سقوط بغداد إيذانا بتراجع أهلها عن التّعليم باللّغة العربيّة وهي التي كانت قبل ذلك ساحة تزدهر بسائر الفنون من حديث ورواية وعلم وأدب ومعمار، ثمّ تلتها في هذه الانتكاسة أقاليم الأناضول وآسيا الصغرى والوسطى التي تراجعت هي الأخرى عن التّعليم بالعربيّة إلى أن اندثر فيها هذا النّمط بالتّدريج ليحتلّ مكانه التّعليم بلغات تلك الأقاليم ولهجاتها المحلّيّة مكان الصّدارة، وليتشكل منذ ذلك الوقت وإلى الآن طوق العزلة على تلك البلاد وهو ما عمّق الهوّة بينها وبين أقطار العالم الإسلاميّ الأخرى فزاد من انتشار الجهل والعقائد الفاسدة بين أهلها، وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الأوضاع المنهارة قد وفّرت بيئة مناسبة لقيام الدّولة الصّفويّة، وسمحت بانتشار التّشيّع في تلك البلاد بعد أن انحسر بعزلتها مجال الحرّيّة فتراجعت بانحساره القدرة على التّفكير الحرّ، واضمحل فيها الإنتاج العلميّ والأدبيّ النّاطق باللّسان العربيّ الجامع فجفّت باضمحلاله منابع الإبداع وعمّ في مقابل ذلك انفتاح العقول على الأفكار الدّخيلة والفلسفات الغريبة عن منهج العقيدة، وسادت الاستكانة لهذه الأفكار والأساليب، وعمّ الارتهان لتأثيرها فشاع الجهل وانتشرت الأمّيّة، وأصبحت أقاليم تلك البلاد مرتعا خصبا للحركات الهدّامة والطّرق الصّوفية التي اختلط فيها الأصيل بالدّخيل، وانتحلها وافتتن بها العوامّ وأشباه المثقّفين، وجميع من هبّ ودبّ من الطّامعين في الوجاهة والرّياسة من المتسلّقة ذوي المآرب الدّنيويّة
تنتسب الأسرة الصّفويّة إلى الشّيخ صفيّ الدّين (650ه/735ه) أحد مريدي الشّيخ تاج الدّين الزّاهد الكيلانيّ، كان واعظاً صوفياً في مدينة (أردبيل) ثم أسّس فرقة صوفيّة كثر أتباعها في إقليم (أذربيجان)، تولّى بعده مشيخة الطّريقة ابنه صدر الدّين (704ه/794ه)، ثمّ ابنه \"خواجة عليّ\" مدة 36 سنة ما أتاح له عدّة لقاءات مع تيمورلنك إلى أن مات في فلسطين سنة 830ه وقبره معروف في يافا باسم قبر الشيخ \"علي العجميّ\"، ثم تولّى المشيخة من بعده ابنه إبراهيم الذي لقّب ب \"شيخ شاه\" والذي كان تشيّعه على المذهب الإماميّ واضحاً إلى أن توفي سنة 851ه وخلفه ابنه الأصغر جنيد الذي تعصّب في تشيّعه وحارب المخالفين من أهل المذاهب الأخرى إلى أن قتل في إحدى حروبه في مدينة شيروان سنة 861ه، وخلف من بعده ابنه حيدر أوّل من لقّب بلقب \"سلطان\" في العائلة الصّفويّة وأمر أتباعه من الدّراويش بوضع قلنسوّة جوخ أحمر مخروطيّة الشّكل على رؤوسهم تمييزا لهم عن غيرهم، ولذلك لقّبوا القزلباشيّة نسبة إلى \"قزلباش\" وهو \"الرأس الأحمر\" بالتّركيّة، كوّن حيدر جيشاً وطلب الانتقام لمقتل والده من ملك شروان، لكنّه قتل سنة (893ه) وسجن الأمير يعقوب أولاده الثّلاثة: علي، إبراهيم وإسماعيل، وبعد إطلاق سراحهم ومقتل عليّ وإبراهيم ذهب إسماعيل إلى \"كيلان\" حيث جمّع القزلباشيّة حوله من أجل الانتقام من قتلة أبيه وجدّه فتم له ذلك بقتل الأمير \"آق قونيلو\" سنة (907ه) والاستيلاء على مملكته بعد مبايعة قبائل التّركمان ثمّ إعلان الدّولة، وبذلك يصبح الشّاه إسماعيل أوّل ملك صفويّ (907ه/1501م) اتّخذ \"تبريز\" عاصمة معلنا أنّ المذهب الرّسميّ للدّولة هو المذهب الجعفريّ، ثم أصدر أمره لأئمّة المساجد بسبّ الخلفاء الرّاشدين الثّلاثة والخطبة باسم أهل البيت، وكان كلّما أبدى المعارضون استياء أوعز للجند بإنهاء الأمر، فقتل نتيجة هذا العنف المذهبيّ ما يربو عن مليون إنسان في بضع سنين، وهو ما جعل أهل السّنّة يعانون من التّمييز والتّضييق معاناة هائلة أجْبرت أغلبهم على التّحوّل إلى المذهب الجعفريّ. آمن الصّفويّون بفكرة الحقّ الإلهيّ التي استمدّ منها الأكاسرة شرعيّة الحكم قبل الإسلام، ثمّ ازداد اعتقادهم رسوخا بوراثة هذا الحقّ عندما أنجب الإمام الحسين عليّا زين العابدين رضي الله عنهما من بنت \"يزدجرد\" ملك الفرس إثر الزّواج منها بعد معركة القادسيّة المشهورة، ورأوا أنّ الحقّين اجتمعا لهم: حقّ ملوك فارس و حقّ أهل البيت في الخلافة والنّيابة عن المهديّ، وللإشارة فإنّ الشّاه إسماعيل سنّ بسلوكه السّياسيّ للصّفويّين من بعده الجمع بين الغلوّ والتّعصّب المذهبيّ وبين التّكفير والدّمويّة، فهذا قريبه إبراهيم صبغة الله الحيدريّ ينقل عنه في الصّفحة 119 من (عنوان المجد) أنّه بعد قتل ملك (شروان) أمر أتباعه القزلباشيّة بطبخه في قدر كبير ثمّ أكله، ففعلوا، وأنّه لم يتوجه لبلد قطّ إلاّ فعل بأهله ما يندى له الجبين من قتل ونهب وحرق للكتب ونبش للقبور، ولذلك انهزم كثير من الوجهاء والمشايخ وفرّ كثير من علماء المذاهب الأخرى لمّا لم يجدوا النّصرة اللاّزمة من إخوانهم العرب والأكراد والواقع أنّ إيران لم تتخلّ قطّ عن الانتماء للأمّة الإسلاميّة لذلك لم تخل في عصر من العصور وعلى غرار باقي الأمصار من المجدّدين والمصلحين الذين حافظوا على هذا الانتماء، إلاّ أنّ ما يهمّنا هنا في هذا المقام هو مجدّدو هذا العصر من العلماء المجتهدين الذين كانت لهم جرأة غير مسبوقة في إظهار الحقّ وإزهاق الباطل كالعالم المجاهد آية الله العظمى السّيّد أبو الفضل بن الحسن بن أحمد البرقعيّ الذي يرجع نسبه الشّريف إلى الإمام موسى المبرقع بن محمّد الجواد عليه السلام، كان من أقران الخمينيّ، بل أعلى مرجعية منه في المذهب الجعفريّ، تلقى العلم عن شيوخ الحوزة في قم من أمثال آية الله الشّيخ عبد الكريم الحائريّ اليزديّ، وآية الله السّيّد أبو الحسن الأصفهانيّ، نال درجة الاجتهاد بعد أن أجيز من قبل عدد من العلماء المجتهدين من أمثال آية الله أبو الحسن الأصفهانيّ وآية الله أبو القاسم الكاشانيّ، لما رأى رحمه الله أنّ انحراف الشعب الإيرانيّ لا يقيمه النّضال السّياسيّ وجّه اهتمامه إلى إصلاح العقيدة في النّفوس فألّف في ذلك مؤلفات عديدة دعا فيها إلى دراسة القرآن والسّنة دراسة هادئة متأنّية تنبذ التّعصّب الطّائفيّ، فكانت عدّة مؤلّفات مابين كتاب ورسالة ومقال أشهرها كتاب \"كسر الصّنم أو عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول\" الذي ردّ فيه بالحجّة النّقليّة والبرهان العقليّ على أصول الكافي للكلينيّ، و \"تضاد مفاتيح الجنان مع القرآن\" وهو عبارة عن دراسة حديثيّة يردّ فيها بشكل غير مسبوق العقيدة الفاسدة والطّقوس البدعيّة المنكرة المتمثّلة في اللّطميّات التي يمارسها أتباع المذهب عند زيارة المشاهد، ثمّ كتاب \"دراسة علميّة في أحاديث المهديّ\" تناول فيه بالدّرس والتّمحيص روايات \"البحار\" للمجلسيّ المخصّصة للحديث عن خروج الإمام المهديّ، فعلّق عليها وفنّدها طبقا لقواعد المذهب الجعفريّ في دراسة المتون والأسانيد وآليّاته المعتمدة في الجرح والتّعديل وتقع الدّراسة في 211 صفحة، وكتاب \"الجامع المنقول في سنن الرّسول\" من عدّة مجلدات أورد فيها كثيرا من الأحاديث المعتمدة لدى مدرسة أهل السّنّة والجماعة يدعمها بما صحّ لدى فقهاء المذهب من أحاديث لا يأخذون بها تعصّبا وعنادا تقع في 1406 صفحة
وكالعالم المجدّد محمد باقر البهبوديّ الأستاذ بجامعة طهران، وهو من تلامذة الخمينيّ والبروجرديّ والخوئيّ ومتخصّص في علم الحديث، اهتمّ بتنقية التّراث مستندا إلى منهج عالم القرن الخامس الهجريّ في تتبّع الرّجال والأصول والمصنّفات، أي بمنهج الإمام أبي الحسين أحمد بن الحسين بن عبيد الله بن إبراهيم الغضائريّ، ثمّ إلى أسلوب الميرزا أبي الحسن الشّعراني (المتوفّىّ عام 1973م) الذي ألّف كتابا تحدّث فيه عن أهمّية تنقية الآثار من أجل المحافظة على المذهب وهو \"المدخل إلى عذب المنهل\"، حيث توصّل إلى قناعة مفادها أنّ خمس المرويّات في كتب المذهب موضوع على الأئمة، فكان أن خطى على دربهما خطوة علميّة جرّيئة أثارت لغطاً وردود أفعال كبيرة عندما أقدم على غربلة كتاب \"الكافي\" للكلينيّ وهو أهمّ مصادر الحديث في المذهب الجعفريّ، قام البهبوديّ بتنقيته ممّا بدا له أنّه ضعيف ومكذوب فكانت النّتيجة سقوط ثلاثة أرباع الكتاب والإقرار بصحّة ربعه فقطّ، كما أخرج كتاب \"صحيح الميزان في التّفسير\" للطّباطبائيّ، وحقّقّ 45 مجلداً من كتاب بحار الأنوار للمجلسيّ، \" فكان صريحاً في تشخيص ما رأى أنه عبث كبير في منهج أهل البيت، وذكّر بصراحة متناهية بظاهرة الدّسّ والكذب التي كانت تضرب أطنابها في كتب المذهب، ولهذا اتّخذ منهجاً علميّاً لمحاربتها وتنقية المرويّ فوضع فهرسا للوضّاعين والضّعفاء شملت أسماء لامعة في مجال الرّواية، بل وصل به الأمر إلى التّشكيك في مصداقية الكلينيّ نفسه، كما أنّه شكّك في أسلوب حصول المجلسيّ على الكتب التي نقل منها \"البحار\"
ومثل العالم آية الله آصف محسنيّ المزداد سنة 1314ه في مدينة قندهار الذي تلقّى علومه الشّرعيّة بالنّجف الأشرف بعد إتمام المقدمات الحوزويّة عام 1332ه فأخذ عن أساتذة مشهورين، كالسّيّد محسن الحكيم، والسّيّد أبو القاسم الخوئيّ، ثمّ عاد إلى قندهار ليؤسّس مدرسة علميّة وحزب الحركة الإسلاميّة، من أهم إنجازاته بناء مركز خاتم النبيّين العلميّ والثّقافيّ، والعديد من المؤلّفات مثل (القرآن أمّ سند الإسلام)، (ميتافيزيك)، (صراط الحقّ)، (الاقتصاد المعتدل)، ( الحكومة الإسلاميّة)، (الفقه والمسائل الطبيّة)، (الفوائد الرجاليّة)، (الرّوح في نظر الدّين)، (أثر الدّين في الحياة)، (العقائد الإسلاميّة)، (العقل والعلم الدّينيّ الجديد)، أثار محمد آصف محسنيّ زوبعة كبيرة بعد إصدار (مشرعة بحار الأنوار) عام 2000م، وقد اختار كتاب المجلسيّ كمادّة للدراسة بعدما رآه أهمّ مرجع للخطباء والوعّاظ الذين يشاركون في صناعة الرّأي العامّ بين الشّيعة، لذلك وضع عليه ملاحظات كثيرة جعلت أكثر رواياته غير معتبرة، متمسكا بما رآه واجبا في التخلّي عن غير الموثوق منها سواء في مجال الفقه أو مجال العقيدة أو مجال السّياسة أو غيرها، وهو أمر جعله يتخطى الخطوط الحمراء ليصل إلى الّتشكيك في بعض الآراء السّائدة وانتقاد ما يبديه العلماء والطّلاب من تساهل في تداول الرّاويات المنسوبة إلى أهل البيت، الأمر الذي أدى في نظره إلى تراجع المسلمين وتخلّفهم
إنّ الحديث عن الإصلاح في إيران، يعني الحديث عن مسارات متعدّدة وطرق مختلفة في أساليبها متنوّعة في موضوعاتها، فالمتتبّع للمشهد الثّقافي الشّيعيّ بإيران يجد تجارب إصلاح نابضة مفعمة بالحيويّة على نحو لا يسعف في مقارنتها بمثيلها في الشقّ الشّيعيّ العربيّ حيث يعتقد أنّ التّخوّف من مضاعفات النّقد الدّاخليّ على تماسك الطّائفة شكّل لدى أغلب علماء المذهب كابحا رئيسا أبطأ لديهم وثيرة الإصلاح، فقد تناول إصلاح الفكر الدّينيّ الشّيعيّ في إيران أدوات المعرفة الدّينيّة وطرق الاجتهاد من خلال تنقية التّراث بوصفه مورد المعرفة الدّينيّة، كما أولى عناية خاصّة بطرق النّظر والاجتهاد وبمرجعية القرآن الكريم في الاستدلال، فبخصوص تنقية التراث رأى العديد من العلماء أنّ لغربلة كتب الأخبار أهمّية قصوى في الرّجوع بالمذهب إلى الأصول، وقد خرجت عدّة محاولات في هذا الإطار كان من أهمّها عن سبيل المثال لا الحصر مشروع نعمة الله صالحيّ نجف آباديّ من خلال كتابه (الشّهيد الخالد)، ومرتضى مطهريّ بكتابه (الملحمة الحسينيّة)، أمّا بخصوص إصلاح أدوات المعرفة الدّينيّة فقد ظهرت على السّاحة الثّقافيّة مشاريع دعت إلى إصلاح أدوات النّظر والاجتهاد في نصوص الشّريعة كمقدّمة تأسيسيّة لمعرفة دينيّة صحيحة وفي هذا السّياق تجدر الإشارة إلى محاولة آية الله العظمى محمّد جواد الموسويّ الغرويّ الأصفهانيّ (المولود عام 1906م)، الذي رأى أنّ الاعتماد على كتب الرّجال لمعرفة صحّة الأحاديث من عدمها خطأ منهجيّ لأنّ مؤلّفي تلك الكتب لم يقابلوا الرّواة بأنفسهم وإنّما اعتمدوا في التّعديل والتّجريح على النّقول، وهو أمر غير قطعيّ لا يعتمد عليه في نظره، لأنّ طريق التّثبّت من صحّة الأحاديث لا يستقيم إلاّ بعرضها على القرآن، ثم العقل، ثم الأصول المسلّم بها كالبراءة الأصليّة، ثمّ السّنّة المتواترة لأنّها قطعيّة الدّلالة قطعيّة الثّبوت فإن وافقها قُبل وإلا رُدَّ، ومن ثمّة يقرّر أن لا سبيل للخروج من تعارض الأحاديث إلاّ باعتماد نفس المنهج الذي على أساسه ردّ أحاديث الكرامات والمعجزات وأدعية زيارات القبور وغيرها من الرّوايات التي أسّست لانتشار الخرافات والغلوّ، فالدّين في نظره ينبغي أن يبنى على العلم اليقينيّ وليس الظّنّيّ، وقد استطاع أن يضع باجتهاده أسساً جديدة لمفهوم جديد يرفض الدّليل الظّنّيّ مصدرا للمعرفة الدّينيّة ولا يعتبر الاعتماد عليه صحيحا من النّاحية المرجعيّة ولا سليما من النّاحية الاجتهاديّة لا في العقائد ولا في الأحكام ولا في غيرها
وللإنصاف ينبغي التّنويه في هذا المقام بنظريّة «المرجعيّة المؤسّسة» للمرجع الشّيعي الرّاحل العلاّمة محمّد حسين فضل الله وهي عبارة عن منهجيّة متكاملة تختلف مع الصّيغة التّقليديّة للمرجعيّة التي سار عليها الشّيعة الأوائل لأنّ طبيعة الظّروف السّياسيّة والاجتماعيّة التي تحيط بالمسلمين، وضخامة التّحديات التي تواجه المجتمعات الإسلاميّة تفرض إحداث نقلة نوعيّة في واقع المرجعيّة كجهاز ينبغي أن تتشكّل معالمه وفق صيغة جديدة تضفي عليها صبغة العمل المؤسّسي والمنظّم، فقد صاغ رحمه الله انطلاقا من ذلك وبناء على هذا الأساس منهجيّة تتشكّل من قطبين رئيسين: يستبعد الأول منها الصّفة الشخصيّة عن المرجعية عندما يقترح ألاّ تكون معبّرة عن وجود شخص معيّن تأخذ سماته الفرديّة فيكون ذلك سببا في موتها بموته، بينما يستدعي الثاني التّخلّي عن التّقليد المتّبع في الميل إلى الوسط الحوزويّ بعيداً عن الاهتمامات العامّة في حياة المسلمين وفي الواقع الدّوليّ، بحيث يجب أن يتّسع اهتمام المرجع لمختلف القضايا التي تتّصل بالإسلام والمسلمين، والتي ترصد مجمل الأحداث والتّحرّكات من أجل إبداء الرّأي والمشورة بشأنها باعتبار ما لمؤسّسة المرجع من دور قياديّ وتربويّ في الوسط الشّيعيّ والإسلاميّ، فهو يرى بهذا الخصوص أنّه لا بدّ من الإطلالة على قضايا العالم لاتّخاذ المواقف المناسبة المعبّرة بصدق وجرأة عن تطلّعات مختلف الشّرائح الاجتماعيّة والخلفيّات السياسيّة والثقافيّة التي تمتد إلى أبعد من هذه المواقع لتحقّق للمرجعيّة حيويّة فكريّة وحركيّة اجتهاديّة تصير بها عنصراً فاعلاً في حياة كلّ النّاس الذين ينتمون إليها ويتّبعونها، فكان من الطبيعي جدّا في نظره أنّ تخضع الجوانب التّنظيميّة في هذه المؤسّسة لتخطيط شامل تتكامل فيه كلّ المواقع بوصفه الموقع الكبير. وفي الجملة يسجّل للسّيّد محمّد حسين فضل الله رحمة الله عليه جرأة في طرح مراجعات أساسيّة ومهمّة وصمودا قويّا في تبنّيها حتى وفاته رغم شدّة الهجوم الذي لقيه في سبيل ذلك كلّه، لقد كان مقتنعا أيّما اقتناع ببطلان الاحتياط في ظلّ وضوح الّرؤية لدى الفقيه لانعدام المبرّر، لأنّ الاحتياط الذي لا يستند إلى أساس علميّ يوقع المكلّف في الحرج والمشقّة، فكما لا يصحّ من أيّة جهة مهما كانت إطلاق اتّهامات ظنّيّة تنتهك بدون دليل مبدأ البراءة الأصليّة لتصدر حكما ظالما وقرارات متعسّفة تثير الفتنة وتشقّ الصّفوف، لا يصحّ في المقابل اعتماد تجربة فقهيّة أو رأي أصوليّ أو فتوى اجتهاديّة أو رواية تاريخيّة تنشئ على أساس ظنّيّ ضرورة عقديّة لا تثبت لا بالدّليل الشّرعيّ ولا بالتّمحيص التّاريخيّ ولا بالنّظر العقليّ، وقد برع الإمام آية الله محمّد حسين فضل الله في بيان ذلك خصوصا في المسألة المتعلّقة \"بكسر الضّلع\"، لقد بيّن في عدّة مقالات وخطب فأجاد البيان من منظورٍ قوله تعالى: (تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون) أنّ الأسلوب الحسن والتّجربة والإطّلاع والهدوء المتّزن، يفسح مجالا لانطلاق الفكر وتعميق النّظر والتّثبّت من كلّ الأحداث والتّأمّل في كلّ القضايا، مؤكّداً أنّ الحكمة وملازمة الصّواب تقتضي من النّاحية الأخلاقيّة ضرورة الالتزام بالحقيقة والابتعاد عن العصبيّة والدّعاوى العمّيّة، ولذا فإن الاطمئنان إلى مرجعيّته إنّما يحصل توّا بالنّظر في سيرته العلميّة الفذّة والاقتناع بفقاهته وعلوّ همّته من خلال الاستمرار على الاستنباط والبحث الاستدلاليّ والتّدريس والتّأليف إضافة إلى شهادة أهل الخبرة والعلم والفضل
وفي هذا السّياق أيضا، فإنّ الآراء التي عبّر عنها العلاّمة المجتهد السّيّد عليّ الأمين تستحقّ التّنويه والاهتمام اعتبارا لما تبديه من سعي حثيث إلى التّثبّت العلميّ، وطموح جدّيّ إلى التّقريب بين طائفتين عظيمتين من المسلمين، فبخصوص أدب الاختلاف من حيث هو مظهر بارز من مظاهر التّعدّد والتّغاير وآية من آيات الله سبحانه وتعالى التي اقتضتها حكمته، وامتحان للخلق في حياة دنيويّة هي مجال لاستباق الخيرات والتّنافس عليها، ينبّه السّيّد حفظه الله إلى حقيقة بالغة الأهمّيّة مفادها أنّ أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم قد رفضوا رفضاً قاطعاً استغلال دماء الإمام الحسين وأصحابه في إثارة الفتن وشقّ صفوف المسلمين، لأنّهم فهموا بالتّأكيد أنّ استشهاده عليه السّلام لا يؤسّس قاعدة عامّة في الخروج على الحاكم، ولذلك لم تتكرّر كربلاء في حياة الأئمة مع أنّ أسباب الظلم والقهر لم تتغيّر في كثير من مراحل حياتهم، ولأنّ الله تعالى هو الذي يتولى أخذ ثأر من مات في سبيله من الطّغاة والظّالمين، وأنّ الإمام الحسين قد استشهد وهو ثائر لله والله خير الحاكمين، فالشّيعة عند هذا السّيّد المجتهد هم كما وصفهم الإمام الباقر سلام الله عليه (سَلَم لمن خالطوا، وبركة على من جاوروا، إذا رضوا لم يسرفوا، وإذا غضبوا لم يظلموا)، لذلك فهو يطالبهم بصراحة وصدق بالغين بالاعتبار بحياة الأئمة وترجمتها إلى سلوك يعيد النّظر في مجمل العادات والشّعارات السّائدة، والطّقوس المتّبعة، لأن الرّجوع إلى سنن الأئمة عليهم السّلام والالتزام بها في ممارسة الشعائر هو الأجدر لسلامة الدّين ما داموا هم القدوة والمرجعيّة المعتبرة في سائر القضايا، أمّا عادات العوامّ وتقاليدهم المنسوبة إلى المذهب فلا يصحّ أن تقبل في عمومها وعلى إطلاقها لأنّها لا تستند إلى أصل من أصول العقيدة الصّحيحة ولا إلى فرع من فروعها، كما لا يصحّ أن تكون وجها من وجوه العبادة والتّقرّب إلى الله لأنّ الكثير منها لا يقرّه عقل ولا يقبله شرع، لذلك ينبغي ألاّ يرجع فيها إلى حزب ولا إلى تنظيم ولا إلى طائفة، ولا أن تراعى فيها العواطف والعادات السّائدة حتى ولو أجازها من يتّسمّون بسمة التّديّن، وقد حرّر السّيّد مجموعة من الرّسائل والمقالات التي توضّح منهجه وتعرض أفكاره وآراءه الاجتهاديّة مثل رسالة \"زبدة التّفكير في رفض السّبّ والتّكفير\"، ومقالاته المنشورة على أعمدة العديد من الصّحف والمجلاّت كمقاله الأخير عن \"الإصلاح بين النّاس بالعدل والقسط\"
وعموما فإنّه عند الحديث عن هذا المطلب المتعلّق بإصلاح أدوات النّظر والمعرفة الدّينيّة، يحقّ التّنويه بجهود شريحة أثارت ولا تزال لغطاً كبيراً بسبب عرض منهج جديد على السّاحة الشّيعيّة يقضي باستعادة مكانة الاستدلال بالقرآن والاستشهاد به على صحّة الحديث، بعدما أحسّ هؤلاء الفقهاء المجدّدون بأن أدلّة القرآن قد توارت خلف بعض المقدّمات الكلاميّة الفاسدة التي تتوهّم ظنّيّة دلالة القرآن أو خلف الدّفع بصعوبة فهم القرآن أو عدم إمكانيّة فهمه إلاّ من قبل الأئمّة والعلماء، أو خلف روايات تفسّره بشكل باطنيّ باطل، ونظراً لتركيز هذه الفئة على القرآن شاع تسميتهم بالشّيعة القرآنيّين، مع أنّ أحداً من هؤلاء لم يرفض السّنّة النّبويّة كما هو حال القرآنيّين في الهند وباكستان، ويعد آية الله محمد حسين شريعت سنكلجيّ المتوفى سنة 1943م مؤسّس هذا الاتّجاه في إيران، وهو عالم دين درس في قم وفي النّجف الأشرف على يد مجموعة من العلماء أمثال المرجع آية الله أبي الحسن الأصفهانيّ وغيره، قاد عند الحصول على مرتبة الاجتهاد دعوة إصلاحيّة ذات طابع منهجيّ وعقديّ في آن واحد، تلخّصت فيما رآه الإمام ضرورة لكسر الجمود وتقليد البدع المفضي إلى الخمول الفكريّ والفساد العقديّ الذي طغى على السّاحة الفكريّة والثّقافيّة للمذهب بسبب الابتعاد عن القرآن قراءة وفهماً واستدلالاً، وهو ما دفعه إلى رفع لواء العودة إلى القرآن الكريم و طرح المبادئ التالية كمسلّمات يقينيّة وحقائق ثابتة:
أولاً: أنّ القرآن محفوظ من التّبديل والتّحريف.
ثانياً: أنّ القرآن واضح ولا يحتاج إلى غيره من أجل فهمه، وفي ذلك يقول: (لا توجد في كتاب الله آية واحدة يعجز الخلق عن فهمها، بل القرآن كلّه قابل للتّدبّر والفهم).
ثالثاً: أنّ النّصّ القرآنيّ يتضمّن كلّ ما يتعلّق بالدّين والشّريعة وأنّه بيان لكلّ شيء.
رابعاً: أنّ الرّجوع إلى النّصّ القرآنيّ في دراسة متون الحديث النّبويّ والاحتجاج عليها لا يفيد التّخلي عن السّنّة النّبويّة لأنّ أحكام الشّريعة في القرآن مجملة تحتاج في بيانها إلى تفصيل السّنّة، وفي ذلك يقول: (والسّنّة هي التي تبيّن ما أجمل من الكتاب وتشرح كلّياته، فلا يمكن فهم القرآن دون سنّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم) ويقول: (فإذا عرفنا أنّ مباحث القرآن كلّيّة ومجملة عرفنا أنّه لا يمكننا أن نفهمها دون الرّجوع إلى السّنّة النّبويّة)
خامساً: أنّ القرآن قدّم العقيدة الواجبة بوضوح تامّ يستوعب الأصول والفروع على نحو لا يحتاج معه إلى بيان السّنّة، وفي ذلك يشير إلى حقيقة مفادها أنّ المسائل الاعتقاديّة مثل الإيمان بالخالق والتّوحيد والإيمان بالنُبُوَّة والمعاد، قد أثبتها القرآن بتفصيل يقيم عليها البراهين السّاطعة والحجج الدّامغة بشكل لا يستدعي الرّجوع إلى السّنّة إلاّ للاستزادة وتعميق الفهم
ومع أنّ الواقع السّياسيّ في المنطقة يهيئ أجواء القطيعة الثّقافية بين المشهدين العربيّ والإيرانيّ على نحو يحرّض التّعصّب ويغلق أبواب التّواصل البنّاء بين أصحاب الرّأي والبصيرة والمشاريع الإصلاحيّة، فإنّ هدف هذا المقال الذي لا يدّعي الإحاطة بجميع جوانب الموضوع هو تقديم مدخل معرفيّ يسعى إلى فهم الموضوعات ويفتح نقاشا واسعا حول الأحداث التي يتّخذها أعداء هذه الأمّة وخصومها مثار لبس وتضليل يبثّ مفاهيم ملتبسة ومصطلحات تستدعي اصطفافا يخلق أجواء الفرقة والتّصادم، لأنّ المعرفة صمّام أمان، والحوار آلية حضاريّة تزيل الاحتقان ومتنفّس فكريّ واجتماعيّ يفرغ فقّاعة الضّغط النّاشئ عن التّوجّس وسوء الفهم ليطلق تأثيرها السّيّئ في الهواء، لذلك فإنّ المشروع الإصلاحيّ الشيعيّ بأبعاده الفكريّة، وأوساطه الاجتماعيّة وألوانه العلميّة، يستطيع الثّبات بشموخ في وجه الأحداث والمثبّطات إذا تمّ دعمه شعبيّا وإعلاميّا ما دام الإصلاح آليّة بناء ثقافيّ واجتماعيّ وجهد مؤسّساتيّ متّصل ومتواصل يعتمد البحث العلميّ منطلقا مؤسّسا للتّنميّة المستدامة ولا يعتمد فيه على أصوات متفرّقة وجهود مبعثرة
إنّ الحركة الإصلاحيّة التي أطلقتها الثّورة الإسلاميّة بإيران أبرزت من دون شكّ أسماء علميّة لامعة وأوجدت أرضيّة مناسبة لتطوير الخبرات الاجتهاديّة في مختلف التّخصّصات، ولا بدّ من الإشارة هنا ولو عن سبيل التّذكير بجهود علماء أجلاّء من أمثال آية الله محمد مجتهد شبستريّ أستاذ الفلسفة في كلّيّة أصول الدّين في جامعة طهران من مواليد 1936ه، الذي عمل في إدارة المركز الإسلاميّ في هامبورج بألمانيا ما أتاح له فرصة التّعمّق في الفلسفة الأوروبّيّة واللاّهوت المسيحيّ، تبنى الدّكتور شبستريّ القيام بمراجعة نقديّة لأدوات المعرفة فقام بالدّعوة إلى إعادة فهم النّصّ الدّينيّ (القرآن والسنة) على ضوء مقولات الهرمنوطيقا (herméneutique)، والدّكتور يوسف شعاريّ التّبريزيّ المتوفّى سنة 1394ه الذي أسّس في تبريز مكتباً لتفسير القرآن، وألّف عدّة كتب منها المحكمات والمتشابهات في القرآن، ومقدّمة في التّفسير، والدّكتور حسينيّ طباطبائيّ الذي يرى أنّ كتب الرّواية مليئة بالأحاديث الباطلة والاعتقادات الخرافيّة لذلك فهو يقترح الاعتماد على مرجعيّة القرآن في فرزها واستبعاد أثرها السّيّئ على العقيدة، وآية الله الدّكتور محمّد الصّادقيّ الطّهرانيّ عمدة الدّعاة إلى إعلاء القرآن الكريم والسّنّة القطعيّة دون غيرهما لتكوين معرفة دينيّة إسلاميّة أصيلة، ثمّ الدّكتور حيدر محمّد كامل حبّ الله اللّبناني الجنسيّة أحد أبرز الوجوه المنتسبة للدّائرة العلميّة في إيران، حاصل على ماجستير علوم القرآن والحديث من كلية أصول الدّين في إيران، وأستاذ البحث الخارج في الحوزة العلميّة في مدينة قم في مادّة الفقه، ومادّة أصول الفقه، وأستاذ في تاريخ أصول الفقه وفلسفة الدّين وعلم الكلام، مترجم من اللغة الفارسيّة إلى العربيّة، ورئيس تحرير مجلّة المنهاج، ومجلّة نصوص معاصرة، ومجلّة الاجتهاد والتّجديد، وعضو هيئة تحرير مجلّة فقه أهل البيت عليهم السّلام، وهيئة تحرير مجلّة ميقات الحجّ، وهيئة تحرير مجلّة أصداء الإيرانيّة، وكاتب سابق في دائرة معارف الفقه الإسلاميّ، وعضو الهيئة الاستشاريّة لمرفأ الكلمة في إيران، من مؤلفاته المنشورة: التّعدّديّة الدّينيّة، وعلم الكلام المعاصر ونظريّة السّنّة في الفكر الإماميّ الشيعيّ ثمّ التّكوّن والصّيرورة
المراجع :
مسارات إصلاح الفكر الديني في إيران خالد بن محمد البديوي [email protected] الدّمام السعودية
• موقع السّيّد عليّ الأمين www.al-amine.org/
• موقع السّيّد محمّد حسين فضل الله www.bayynat.org.lb/
• محمد حسين فضل الله :مشاكسة فكرية واحترام للآخر شفيق ناظم الغبرا أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت الجمعة 10/07/30
• محمد حسين فضل الله في عيون خصومه خالد بن محمد البديوي [email protected] الدّمام السعودية
• حركة الإصلاح الشيعي نادر المتروك صحيفة الوقت البحرينية 17/03/2006
• محمد حسين فضل الله وتطوير المرجعية الشيعية هيثم مزاحم باحث وصحافي لبناني
• حول الحراك الثّقافيّ بإيران حوار مع حيدر محمد كامل حب الله لعبد العالي العبدوني
• تاريخ الدّولة الصّفويّة عبد العزيز بن صالح المحمود
• الصفويون والدولة العثمانية أبو الحسن علوي بن حسن عطرجي
• شبكة الدفاع عن السنة على الانترنت www.dd-sunnah.net
عبد ربّه تعالى محمّد بن محمّد بن عليّ بن الحسن السّلفيّ المالكيّ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.