في يوم عزلتي التاسعة أتأمل هذا العالم المتردي، أحاول استخلاص ما يمكن استخلاصه، وأتساءل عن موقع حمامة وديعة تحاصرها أسراب من الصقور الجارحة الجائعة..أتقدر على الانفلات من بين مخالبها وهي التي لا تملك من سلاح غير الهديل، هكذا يبدو النسيم لاشيء وسط عاصفة من الرياح المزمجرة المدمرة. يؤلمني أن أنظر إلى هذا العالم اليابس اليائس، لقد خرّب الجشع كل القيم النبيلة، وغدت البحيرات النقية الناذرة نشازا وسط المستنقعات التي تهاجمها، ما عاد للورد طعم، وما عاد للماء مذاق، كل الأصوات الجميلة بُحّتْ، وصهيل الخيول غاب، وخلا الجو للنقيق والنهيق، والجلاد أخرج سيفه الدامي من غمده، وراح يضرب خبط عشواء بين رؤوس البسطاء والأبرياء والمغفلين من يبررون سوء الحال بالأقدار..ولا يعرفون أن من سرق رغيفهم هو جارهم الذي استجاروه، كشر الذئب عن أنيابه، فأين يهرب الحَمَلُ:\\\"رحم الله مجير أم عامر\\\". ها هو العالم يتحول زوبعة غبار رفعتها حوافر الحمير، اختلط في عتمتها العصفور بالفراشة، والأسد بالغزال، والثعلب بالأرنب..امَّحت المسالك، وضاع الأثر، ولا أحد يعرف كيف ينجو بنفسه من هذا الجحيم إلا من رحم نفسه، أما أنا فقد عودت نفسي في كل مرَّة تقترب مني زوابع الخبث والنفاق والبهتان أن أهرب بعيدا حتى أتقي شرها، وحتى لا تلطخني وأنا أقاومها، أعرف أن الماء الشروب سرعان ما يتحول إلى ماء مالح بمجرد أن يلامس البحر. أركب إذا عزلتي أعانق الطمأنينة الروحية وأسترخي، ألتقط أنفاسي، أعدّ دقات مشاعري في انتظار ما ستأتي به الأيام القادمة، ولما تلاحقني الزوبعة ألتف حول ذاتي، وأضع رأسي بين ركبتي، وحتى لا تجرفني بعيدا أثقل جسدي بالأفكار الجميلة، وأشده إلى الأرض بحبال من العواطف المرهفة، وأنتظر عبورها. لم تعد الزوابع تفزعني، تعلمت كيف أستحملها وأتحملها وأمتص عنفها. يرهبني هذا العالم الغارق في تفاهته، وقلة من البشر من يترفع عن دنسه وقبحه، أما الناجون الذين ينأون بأنفسهم تفاديا للعدوى فإننا لن نلقاهم إلا في الخلاء متوحدون، ومتى دنوت منهم تتعبك نظراتهم الثلجية، وهدوءهم الصحراوي، ترعبك أصواتهم الصامتة فتهرب منهم قبل أن تراهم. وماذا يتبقى من الإنسانية حين تسقط كل القيم النبيلة وتصبح أسيرة غرائزها البدائية التي تقودها فاقدة لزمامه. هو عالم منافق حقا ترى فيه القاتل يتبع قتيله والدموع مدرارا تنهمر من عينيه معلنا للملإ وهو التمساح عن حجم العشق الذي يخص به الفقيد. هكذا يسقط حلم الإنسانية في الخير والسلم. المصطفى فرحات [email protected]