نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب    وزارة الاقتصاد والمالية: المداخيل الضريبية بلغت 243,75 مليار درهم عند متم أكتوبر 2024        في لقاء مع الفاعلين .. زكية الدريوش تؤكد على أهمية قطاع تحويل وتثمين وتسويق منتجات الصيد ضمن النسيج الإقتصادي الوطني    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    الذهب يواصل مكاسبه للجلسة الرابعة على التوالي    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    استئنافية ورزازات ترفع عقوبة الحبس النافذ في حق رئيس جماعة ورزازات إلى سنة ونصف    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    مقتل 22 شخصا على الأقل في غارة إسرائيلية على غزة وارتفاع حصيلة الضربات على تدمر السورية إلى 68    ترامب ينوي الاعتماد على "يوتيوبرز وبودكاسترز" داخل البيت الأبيض    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    كيوسك الخميس | 80 في المائة من الأطفال يعيشون في العالم الافتراضي    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية        اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    الفتيان يواصلون التألق بالفوز على ليبيا    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    بوريطة يستقبل رئيسة برلمان صربيا    الحكومة تتدارس إجراءات تفعيل قانون العقوبات البديلة للحد من الاكتظاظ بالسجون        ولد الشيخ الغزواني يهنئ الملك محمد السادس بمناسبة عيد الاستقلال    العصبة الوطنية لكرة القدم الاحترافية تقرر تغيير توقيت انطلاق ديربي البيضاء    توقعات أحوال الطقس لنهار اليوم الأربعاء    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية    تفاصيل نجاة فنانة مصرية من الموت        نادال مودعا ملاعب التنس: " أريد أن يتذكرني الناس أنني كنت شخصا طيبا قادما من قرية صغيرة قرب مايوركا"    تلاميذ مغاربة يحرزون 4 ميداليات في أولمبياد العربية في الراضيات    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    روسيا تبدأ الاختبارات السريرية لدواء مضاد لسرطان الدم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إشكالية التصوف في الخطاب السلفي المعاصر
نشر في التصوف يوم 07 - 03 - 2012

التصوف حديث شيق ممتع، وجد مناخاً خصباً له في مصر تحديداً، وهو في حقيقته كما يؤكد رواده ومريدوه علم يعرف به كيفية السلوك إلي حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرزائل، وتحليتها بأنواع الفضائل.
والتصوف أوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة. والمهمومون بقضية التصوف يقصدون به تزكية النفس وصفاء القلوب، وإصلاح الأخلاق، والوصول به إلي مرتبة الإحسان.
ويؤكد أتباع الصوفية المعاصرين أن الصحابة والتابعين كانوا صوفيين فعلاً لا اسماً، معللين رأيهم هذا بأن المرء يعيش لربه لا لنفسه، ويتحلي بالزهد وملازمة العبودية والإقبال علي الله بالروح والقلب معاً في جميع الأوقات.
فرض عين
بل ويذهب بعضهم بالقول بأن التصوف هو فرض عين مرتكزين في ذلك علي قول السلف، فالإمام جلال الدين السيوطي قال: "وأما علم القلب ومعرفة أمراضه من الحسد والعجب والرياء ونحوهما، فقال الغزالي: إنها فرض عين".
وحينما يهجم عليهم معتد بالقول في حقيقة التصوف باعتباره مجرد أوراد تتلي وحلقات أذكار فحسب، ينكرون عليه هذا بقولهم إن التصوف منهج عملي كامل، يحقق انقلاب الإنسان من شخصية منحرفة إلي شخصية مسلمة مثالية متكاملة.
وأبو الحسن الشاذلي له رأي في ذلك بقوله: "من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر".
ورغم ما يتمتع به التصوف من مكانة وأهمية، إلا أن الخطاب الديني لاسيما السلفي يري غير ذلك، بل ويشهر علانيةً سيف العداء تجاهه وتجاه أنصاره ومريديه، وبدلاً من أن يتحد هذا الخطاب السلفي والآخر الصوفي في بناء متكامل لنصرة وإعلاء الإسلام، راح يكيل له التهم ويعدد مثالب التصوف والخطاب الصوفي بوجه عام.
وإذا كان أصحاب الخطاب السلفي يدعون أن أعداد المنتمين لهم يفوق كل التنظيمات والتكتلات فإن أعداد محبي وعشاق التصوف والمتصوفة والعارفين بالله يفوق الحصر، ولعل هذا هو مدخل معرفة أسباب هجوم الخطاب السلفي على الصوفية، فإن فكرة الالتفاف دون أغراض سياسية أو أجندات موجهة هو ما دفع رجال التصوف إلى إعلان أن هجوم الخطاب السلفي لهم لهو حقد دفين عند بعضهم. عليى العكس تماما من الخطاب الديني لدي جماعة الإخوان المسلمين، الذين لم يقتربوا من فكرة تناول التصوف أو ملف الصوفية في مصر؛ حيث إن الإمام الشهيد حسن البنا قد أشار في كتابه (رسالة التعاليم) إلى أن الصوفية كانت مرحلة من مراحل حياته ونشأته، كما ذكر أكثر من مرة وهو يكرس لجماعته أنه من خصائص دعوته أنها حقيقة صوفية.
وقبل أن يتجه الخطاب الديني السلفي إلي منحاه السياسي المجتمعي كان يتشابه عظيم الشبه مع التصوف والقيم الصوفية، فكثير ما كان هذا الخطاب يدغدغ أسماع وأفئدة المستمعين بأحاديث الرقائق عن فضائل الصبر والطاعة والإحسان للغير وشكر النعمة، وهو نفس الخطاب والطرح الصوفي القديم والمعاصر، فالتجربة الصوفية تسهم في علاج الكثير من أمراض النفس البشرية التي عقدتها الحياة الاصطناعية وطبيعة المجتمع المركب.
لكن الهجوم المتوقع من أنصار الخطاب الديني السلفي تجاه الصوفية كان له مبرراته التي لا نستطيع أن نفصلها عن نص الخطاب نفسه، فإذا كان التصوف يدعو إلي قطع العبد بعلائق الدنيا، وبقطع الهمة على المال والأهل والولد، والبلد، فإن هذا يتنافى مع خطاب يشحذ همته إلى ترسيخ وتكريس مفهوم الجهاد لدى أنصاره.
فحالة الصراع المستدامة التي يفجرها الخطاب الديني تحتاج إلى مواطن شديد الصلة بواقع مجتمعه، يفرق بين المعروف والمنكر حسبما وجهه إلي ذلك هذا الخطاب، وغير منقطع الصلة بوطنه الذي سيحمل سلاح الجهاد فيه لمواجهة أعدائه المتربصين به دائماً، وهذا ما يؤكده الخطاب السلفي من وجود أعداء دائمين للإسلام، وبدلاً من تقوية العقيدة لدينا راح هذا الخطاب يرفع حالة التأهب القصوي لقدوم العدو.
وحسب علمي أن الاستشراق فقط هو الذي حمل عداءً معلناً للإسلام والنيل من خصائصه ومقوماته، وحينما بزغ فجر هذا العداء لم نجد خطاباً سلفياً واحداً يعالج قضية الاستشراق، بل وحد جهوده وجهود أنصاره في النيل من الإمام محمد عبده، والدكتور عبدالحليم محمود، والشيخ محمد الغزالي، وبالتأكيد معاودة القنص من التنويري رفاعة الطهطاوي، وليس هناك مانع من المرور السريع على أديب مصر نجيب محفوظ ومفكرها نصر حامد أبو زيد.
وفي زمرة الحديث عن الخطاب الديني السلفي المعاصر، لابد من التسليم بقوة أسلحته وهو ينفَّر أنصاره من الصوفية والتصوف، ولأن أنصار هذا الخطاب ممن يحسنون الاستماع دون القراءة فإن المدخل الرئيسي لضرب مفهوم التصوف والصوفية لديهم هو الشريعة الإسلامية نفسها.
فراح هذا الخطاب سواء على المنابر أو من خلال المنشورات أو في ندوات موجهة إلى التشكيك في التزام المتصوفة بالشريعة الإسلامية وأحكامها، بل ويغالي بعضهم بأنهم يتحللون من الشريعة كليةً، وبالطبع هم يستندون في ذلك علي بعض المنتسبين إلى الصوفية والمشهورين بالدجل والشعوذة.
ولو كلف أحدهم مشقة البحث في هذا الحكم الصارم لوجد أن كبار المتصوفة مثلهم كمثل أي مسلم موحد بالله يذعن للشريعة وأحكامها، فهذا أبو الحسن الشاذلي يقول: "من دعا إلى الله تعالي بغير ما دعا به رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فهو بدعي"، أي أن الصوفية تتوافق مع الخطاب السلفي في أمر البدعة والبدعية التي طالما أكد هذا الخطاب عليها.
والمشكلة هي أن المواطن الذي لم يعد بسيطاً أو عادياً بعد انتصاره الحقيقي في إسقاط نظام مبارك، لا يكلف نفسه عناء البحث وطلب المعرفة في أمور تختص بعبادته وعقيدته، بل ووكل أمر هذا إلى شيخ أو داعية، كواسطة بينه وبين المعرفة والعلم.
لذلك فالشيخ سهل التستري يعبر عن حقيقة التزام الصوفي بأحكام الشريعة وأوامرها ونواهيها بقوله: "أصول طريقنا سبعة: التمسك بكتاب الله، والاقتداء بسنة نبيه، وأكل الحلال، وكف الأذى، وتجنب المعاصي، ولزوم التوبة، وأداء الحقوق".
وذكر الإمام الجنيد أحد أقطاب التصوف أن كل الطرق مسدودة على الخلق إلا من اقتفي أثر الرسول (صلي الله عليه وسلم)، واتبع سنته، ولزم طريقته. وقال في ذلك نصاً: "علمنا هذا مشيد بالقرآن وبحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم".
الاختلاف
إذن القضية لا تختلف في الأصول بين أهل التصوف وبين الخطاب الديني السلفي بقدر ما تختلف الوجهة والأهداف، فأهل التصوف وإن يزعمون التكيف والعيش في مجتمع مدني إلا أنهم لا يبغون تسيده على المشهد السياسي والاجتماعي، ولا يسعون إلى تكريس خطابهم ليكون معبراً نحو الحياة السياسية، بخلاف الخطاب السلفي الذي بدا منذ سنين لا يدعو إلا لإعلاء كلمة الحق على المستوي الأيديولوجي، ولكن بعد سقوط النظام الحاكم والسياسي في مصر تبدلت الوجهة والهدف. ومن ثم كان علي هذا الخطاب أن يزيح كافة التيارات والقوي الدينية التي تنازعه الملك في السيطرة علي قلوب وعقول المواطنين.
وأصحاب الخطاب الديني يرفضون ما على أهل التصوف من ذل وضعف وزهد في الحياة، ويشيعون بين مريدهم أن المتصوفة يعانون أمراض الانطواء والاستبعاد الاجتماعي، وكراهية الحياة، وحب الخمول والكسل، بل يذهب بعض أصحاب الخطاب السلفي بعيداً برأيهم فيقولون بأن أهل التصوف يعيشون على التسول.
ولاشك أن مثل هذه الأحاديث تجعل المستمعين لهذا الخطاب ينفرون من التصوف وأهله، بل وينظرون إلي أصحاب هذه الفرقة على أنهم أهل شعوذة وسحر وتسكع في الطرقات طلباً للحاجة.
ولو كلف هؤلاء المريدون أنفسهم هم مشقة المعرفة والبحث في عصر غابت عنه الثقافة وتفشي الجهل والعدمية المعرفية لفطنوا وعرفوا أن معظم الصوفية الأماجد ارتبطت أسماؤهم بالمهن التي اشتغلوا بها كسباً للعيش.
ومن هذه الأسماء: الصيرفي، والغزالي، والزجاجي، والنساج، والقصار، والوراق، والخراز، والحلاج، ولعل أغلب المهن التي امتهنها هؤلاء المتصوفة كانت يدوية يغلب عليها العناء والكد لأنهم كانوا يربأون بأنفسهم عن مقربة السلاطين والخلفاء ورغبتهم في العيش بحرية دون سلطان من بشر، كما أنهم يخالفون ظن الخطاب الديني السلفي بأنهم يميلون للكسل والتسول، فهم يقتنعون بأن العمل عبادة، وأن العلم عبادة أيضاً.
وفي هذا يقول إبراهيم بن أدهم أحد أقطاب الصوفية يحض مريديه علي العمل وطلبه: "عليكم بعمل الأبطال، الكسب من الحلال والنفقة على العيال". والإمام عبدالوهاب الشعراني ينصح أتباعه بقوله: "الاجتهاد في العمل وإتقانه يقوم مقام النوافل والتطوع للعبادة".
إذا المشكلة لا تتعلق بمارسات غير طبيعية صادرة من أهل التصوف بقدر ما أن الخطاب الديني المعاصر لا يقبل فكرة التعددية واختلاف الأيديولوجيات، وخطاب مثل هذا لا يقوم على مرونة تقبل الآخر المختلف فكرياً في فروع ليست بالأصول الجوهرية مثل وحدة الوجود والمغالاة في فكرة الحلول والاتحاد المنسوبة لبعض أهل الصوفية المغالين في أقوالهم وآرائهم، لا يستطيع أن يقبل مشورة أو اقتراحاً لتطويره أو لاستيعاب تحديات ومستجدات تفرض سطوتها علي واقعنا المعاصر.
لذلك فنحن بحاجة حقيقية لتقريب وجهات النظر المتباينة بين الطوائف والتيارات الدينية في مصر والعالم العربي بوجه عام من أجل إيجاد خطاب ديني مستنير لا يقف موقف المعادي من تعدد تيارات مختلفة في أيديولوجياتها وطروحاتها الفكرية لا هويتها الإسلامية الرصينة، وهذا لا يحدث إلا من خلال فهم عميق ودقيق للإرث الثقافي الديني والتفرقة بينه وبين الدين، لأن الأخير باق وثابت، والأول متغير بفعل الزمن وإحداثياته التي لا تقبل الثبات .
بقلم: بليغ حمدي إسماعيل
القاهرة
التصوف حديث شيق ممتع، وجد مناخاً خصباً له في مصر تحديداً، وهو في حقيقته كما يؤكد رواده ومريدوه علم يعرف به كيفية السلوك إلي
حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرزائل، وتحليتها بأنواع الفضائل.
والتصوف أوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة. والمهمومون بقضية التصوف يقصدون به تزكية النفس وصفاء القلوب، وإصلاح الأخلاق،
والوصول به إلي مرتبة الإحسان.
ويؤكد أتباع الصوفية المعاصرين أن الصحابة والتابعين كانوا صوفيين فعلاً لا اسماً، معللين رأيهم هذا بأن المرء يعيش لربه لا لنفسه، ويتحلي
بالزهد وملازمة العبودية والإقبال علي الله بالروح والقلب معاً في جميع الأوقات.
فرض عين
بل ويذهب بعضهم بالقول بأن التصوف هو فرض عين مرتكزين في ذلك علي قول السلف، فالإمام جلال الدين السيوطي قال: "وأما علم القلب
ومعرفة أمراضه من الحسد والعجب والرياء ونحوهما، فقال الغزالي: إنها فرض عين".
وحينما يهجم عليهم معتد بالقول في حقيقة التصوف باعتباره مجرد أوراد تتلي وحلقات أذكار فحسب، ينكرون عليه هذا بقولهم إن التصوف منهج
عملي كامل، يحقق انقلاب الإنسان من شخصية منحرفة إلي شخصية مسلمة مثالية متكاملة.
وأبو الحسن الشاذلي له رأي في ذلك بقوله: "من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر".
ورغم ما يتمتع به التصوف من مكانة وأهمية، إلا أن الخطاب الديني لاسيما السلفي يري غير ذلك، بل ويشهر علانيةً سيف العداء تجاهه وتجاه
أنصاره ومريديه، وبدلاً من أن يتحد هذا الخطاب السلفي والآخر الصوفي في بناء متكامل لنصرة وإعلاء الإسلام، راح يكيل له التهم ويعدد مثالب
التصوف والخطاب الصوفي بوجه عام.
وإذا كان أصحاب الخطاب السلفي يدعون أن أعداد المنتمين لهم يفوق كل التنظيمات والتكتلات فإن أعداد محبي وعشاق التصوف والمتصوفة
والعارفين بالله يفوق الحصر، ولعل هذا هو مدخل معرفة أسباب هجوم الخطاب السلفي على الصوفية، فإن فكرة الالتفاف دون أغراض سياسية
أو أجندات موجهة هو ما دفع رجال التصوف إلى إعلان أن هجوم الخطاب السلفي لهم لهو حقد دفين عند بعضهم. عليى العكس تماما من الخطاب
الديني لدي جماعة الإخوان المسلمين، الذين لم يقتربوا من فكرة تناول التصوف أو ملف الصوفية في مصر؛ حيث إن الإمام الشهيد حسن البنا قد
أشار في كتابه (رسالة التعاليم) إلى أن الصوفية كانت مرحلة من مراحل حياته ونشأته، كما ذكر أكثر من مرة وهو يكرس لجماعته أنه من
خصائص دعوته أنها حقيقة صوفية.
وقبل أن يتجه الخطاب الديني السلفي إلي منحاه السياسي المجتمعي كان يتشابه عظيم الشبه مع التصوف والقيم الصوفية، فكثير ما كان هذا
الخطاب يدغدغ أسماع وأفئدة المستمعين بأحاديث الرقائق عن فضائل الصبر والطاعة والإحسان للغير وشكر النعمة، وهو نفس الخطاب والطرح
الصوفي القديم والمعاصر، فالتجربة الصوفية تسهم في علاج الكثير من أمراض النفس البشرية التي عقدتها الحياة الاصطناعية وطبيعة المجتمع
المركب.
لكن الهجوم المتوقع من أنصار الخطاب الديني السلفي تجاه الصوفية كان له مبرراته التي لا نستطيع أن نفصلها عن نص الخطاب نفسه، فإذا
كان التصوف يدعو إلي قطع العبد بعلائق الدنيا، وبقطع الهمة على المال والأهل والولد، والبلد، فإن هذا يتنافى مع خطاب يشحذ همته إلى
ترسيخ وتكريس مفهوم الجهاد لدى أنصاره.
فحالة الصراع المستدامة التي يفجرها الخطاب الديني تحتاج إلى مواطن شديد الصلة بواقع مجتمعه، يفرق بين المعروف والمنكر حسبما وجهه
إلي ذلك هذا الخطاب، وغير منقطع الصلة بوطنه الذي سيحمل سلاح الجهاد فيه لمواجهة أعدائه المتربصين به دائماً، وهذا ما يؤكده الخطاب
السلفي من وجود أعداء دائمين للإسلام، وبدلاً من تقوية العقيدة لدينا راح هذا الخطاب يرفع حالة التأهب القصوي لقدوم العدو.
وحسب علمي أن الاستشراق فقط هو الذي حمل عداءً معلناً للإسلام والنيل من خصائصه ومقوماته، وحينما بزغ فجر هذا العداء لم نجد خطاباً
سلفياً واحداً يعالج قضية الاستشراق، بل وحد جهوده وجهود أنصاره في النيل من الإمام محمد عبده، والدكتور عبدالحليم محمود، والشيخ محمد
الغزالي، وبالتأكيد معاودة القنص من التنويري رفاعة الطهطاوي، وليس هناك مانع من المرور السريع على أديب مصر نجيب محفوظ ومفكرها
نصر حامد أبو زيد.
وفي زمرة الحديث عن الخطاب الديني السلفي المعاصر، لابد من التسليم بقوة أسلحته وهو ينفَّر أنصاره من الصوفية والتصوف، ولأن أنصار هذا
الخطاب ممن يحسنون الاستماع دون القراءة فإن المدخل الرئيسي لضرب مفهوم التصوف والصوفية لديهم هو الشريعة الإسلامية نفسها.
فراح هذا الخطاب سواء على المنابر أو من خلال المنشورات أو في ندوات موجهة إلى التشكيك في التزام المتصوفة بالشريعة الإسلامية
وأحكامها، بل ويغالي بعضهم بأنهم يتحللون من الشريعة كليةً، وبالطبع هم يستندون في ذلك علي بعض المنتسبين إلى الصوفية والمشهورين
بالدجل والشعوذة.
ولو كلف أحدهم مشقة البحث في هذا الحكم الصارم لوجد أن كبار المتصوفة مثلهم كمثل أي مسلم موحد بالله يذعن للشريعة وأحكامها، فهذا أبو
الحسن الشاذلي يقول: "من دعا إلى الله تعالي بغير ما دعا به رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فهو بدعي"، أي أن الصوفية تتوافق مع
الخطاب السلفي في أمر البدعة والبدعية التي طالما أكد هذا الخطاب عليها.
والمشكلة هي أن المواطن الذي لم يعد بسيطاً أو عادياً بعد انتصاره الحقيقي في إسقاط نظام مبارك، لا يكلف نفسه عناء البحث وطلب المعرفة في
أمور تختص بعبادته وعقيدته، بل ووكل أمر هذا إلى شيخ أو داعية، كواسطة بينه وبين المعرفة والعلم.
لذلك فالشيخ سهل التستري يعبر عن حقيقة التزام الصوفي بأحكام الشريعة وأوامرها ونواهيها بقوله: "أصول طريقنا سبعة: التمسك بكتاب الله،
والاقتداء بسنة نبيه، وأكل الحلال، وكف الأذى، وتجنب المعاصي، ولزوم التوبة، وأداء الحقوق".
وذكر الإمام الجنيد أحد أقطاب التصوف أن كل الطرق مسدودة على الخلق إلا من اقتفي أثر الرسول (صلي الله عليه وسلم)، واتبع سنته، ولزم
طريقته. وقال في ذلك نصاً: "علمنا هذا مشيد بالقرآن وبحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم".
الاختلاف
إذن القضية لا تختلف في الأصول بين أهل التصوف وبين الخطاب الديني السلفي بقدر ما تختلف الوجهة والأهداف، فأهل التصوف وإن يزعمون
التكيف والعيش في مجتمع مدني إلا أنهم لا يبغون تسيده على المشهد السياسي والاجتماعي، ولا يسعون إلى تكريس خطابهم ليكون معبراً نحو
الحياة السياسية، بخلاف الخطاب السلفي الذي بدا منذ سنين لا يدعو إلا لإعلاء كلمة الحق على المستوي الأيديولوجي، ولكن بعد سقوط النظام
الحاكم والسياسي في مصر تبدلت الوجهة والهدف. ومن ثم كان علي هذا الخطاب أن يزيح كافة التيارات والقوي الدينية التي تنازعه الملك في
السيطرة علي قلوب وعقول المواطنين.
وأصحاب الخطاب الديني يرفضون ما على أهل التصوف من ذل وضعف وزهد في الحياة، ويشيعون بين مريدهم أن المتصوفة يعانون أمراض
الانطواء والاستبعاد الاجتماعي، وكراهية الحياة، وحب الخمول والكسل، بل يذهب بعض أصحاب الخطاب السلفي بعيداً برأيهم فيقولون بأن أهل
التصوف يعيشون على التسول.
ولاشك أن مثل هذه الأحاديث تجعل المستمعين لهذا الخطاب ينفرون من التصوف وأهله، بل وينظرون إلي أصحاب هذه الفرقة على أنهم أهل
شعوذة وسحر وتسكع في الطرقات طلباً للحاجة.
ولو كلف هؤلاء المريدون أنفسهم هم مشقة المعرفة والبحث في عصر غابت عنه الثقافة وتفشي الجهل والعدمية المعرفية لفطنوا وعرفوا أن
معظم الصوفية الأماجد ارتبطت أسماؤهم بالمهن التي اشتغلوا بها كسباً للعيش.
ومن هذه الأسماء: الصيرفي، والغزالي، والزجاجي، والنساج، والقصار، والوراق، والخراز، والحلاج، ولعل أغلب المهن التي امتهنها هؤلاء
المتصوفة كانت يدوية يغلب عليها العناء والكد لأنهم كانوا يربأون بأنفسهم عن مقربة السلاطين والخلفاء ورغبتهم في العيش بحرية دون
سلطان من بشر، كما أنهم يخالفون ظن الخطاب الديني السلفي بأنهم يميلون للكسل والتسول، فهم يقتنعون بأن العمل عبادة، وأن العلم عبادة
أيضاً.
وفي هذا يقول إبراهيم بن أدهم أحد أقطاب الصوفية يحض مريديه علي العمل وطلبه: "عليكم بعمل الأبطال، الكسب من الحلال والنفقة على
العيال". والإمام عبدالوهاب الشعراني ينصح أتباعه بقوله: "الاجتهاد في العمل وإتقانه يقوم مقام النوافل والتطوع للعبادة".
إذا المشكلة لا تتعلق بمارسات غير طبيعية صادرة من أهل التصوف بقدر ما أن الخطاب الديني المعاصر لا يقبل فكرة التعددية واختلاف
الأيديولوجيات، وخطاب مثل هذا لا يقوم على مرونة تقبل الآخر المختلف فكرياً في فروع ليست بالأصول الجوهرية مثل وحدة الوجود والمغالاة
في فكرة الحلول والاتحاد المنسوبة لبعض أهل الصوفية المغالين في أقوالهم وآرائهم، لا يستطيع أن يقبل مشورة أو اقتراحاً لتطويره أو
لاستيعاب تحديات ومستجدات تفرض سطوتها علي واقعنا المعاصر.
لذلك فنحن بحاجة حقيقية لتقريب وجهات النظر المتباينة بين الطوائف والتيارات الدينية في مصر والعالم العربي بوجه عام من أجل إيجاد خطاب
ديني مستنير لا يقف موقف المعادي من تعدد تيارات مختلفة في أيديولوجياتها وطروحاتها الفكرية لا هويتها الإسلامية الرصينة، وهذا لا يحدث إلا
من خلال فهم عميق ودقيق للإرث الثقافي الديني والتفرقة بينه وبين الدين، لأن الأخير باق وثابت، والأول متغير بفعل الزمن وإحداثياته التي لا
تقبل الثبات .
بقلم: بليغ حمدي إسماعيل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.