شهد الأسبوعان الماضيان توترا في العلاقة بين الحكومة التونسية وقطاع المحامين وناشطي حقوق الإنسان. وطال الأمر بعض الصحافيين والباحثين الاجتماعيين التونسيين، على خلفية تحريكهم لملف أوضاع السجون في تونس عامة، ومساجين الرأي والمساجين السياسيين على وجه الخصوص. وقد بدأ التوتر باعتقال المحاميين محمد النوري رئيس الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين، ونور الدين البحيري أمين المال في مركز تونس لاستقلال القضاء والمحاماة، الذي يرأسه القاضي مختار اليحياوي، قبل أسبوعين، ثم تلاه استدعاء أعضاء هيئة الاتصال (القيادة التنفيذية) في الجمعية، التي تشكلت قبل نحو شهر ونصف، وتقدمت بطلب الترخيص لها في العمل القانوني، غير أن السلطة واجهت طلبها ذاك بحملة من الاعتقالات والمداهمات، شملت معظم العاملين فيها، ومكاتب عملهم. وكان يوم السبت الماضي (14 كانون أول/ ديسمبر الجاري)، اليوم الذي تجلى فيه التوتر في العلاقة بين الحكومة والمحامين وناشطي المجتمع المدني في أوضح صوره، حين أقدمت أجهزة الأمن التونسية على محاصرة مكتب المحامي نور الدين البحيري، واختطاف زوجته المحامية سعيد العكرمي، الكاتبة العامة للجمعية الدولية لمساندة المساجين، أثناء نزولها من سيارتها، والاعتداء عليه وعليها بالعنف وعلى نجليهما، مما تسبب في كسر أسنان نجلها مازن، وإدخالها المستشفى في حالة شلل نصفي، بحسب ما أكدته بيانات صادرة عن جمعيات ومنظمات حقوقية دولية ومحلية. وشهد اليوم ذاته حملة عنف واسعة تعرض فيها العديد من المحامين للضرب والاعتقال، عرف منهم محمد النوري رئيس الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين، ومختار الطريفي رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، ويوسف الرزقي رئيس جمعية المحامين الشبان، ونجيب بن يوسف، وآمال رستم، وسمير بن عمر، وسمير ديلو، وعبد الرؤوف العيادي، ومحمد جمور، والباحث الاجتماعي سامي بن نصر، المختص في دراسة السجون التونسية، وآخرون. كما تعرض القاضي مختار اليحياوي للاختطاف والضرب مرتين متتاليتين في أسبوع واحد. واستدعي الصحافي هادي بن يحمد، العامل في مجلة /حقائق/ الأسبوعية التونسية المستقلة، ومدير تحرير المجلة، للتحقيق يوم السبت الماضي، على خلفية نشر المجلة مقال عن تدهور أوضاع الإقامة في السجون التونسية. تأسيس الجمعية هو السبب ويذهب بعض المراقبين إلى أن تأسيس الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين هو سبب الغضب الحكومي الحاد. ويرى هؤلاء المراقبون أن الحكومة التونسية تبدي حرصا شديدا منذ سنوات على نفي أن يكون في السجون التونسية معتقلون سياسيون. وتصرّ على أن أولئك المعتقلين مجرمو حق عام، أدينوا أمام قضاء عادل ومستقل. وكان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي قد قال عام 1999، أثناء زيارته للعاصمة الفرنسية باريس، عقب لقائه بالرئيس الفرنسي جاك شيراك، للصحافيين الذين ألحوا على إثارة موضوع المساجين السياسيين في تونس، بأن أجابهم باختصار شديد بأنه لا يوجد في تونس معتقلون سياسيون. غير أن منظمات حقوق الإنسان الدولية والمحلية، وعلى رأسها منظمة العفو الدولية، تتحدث عن اعتقال نحو ألف سجين سياسي في تونس منذ مطلع عام 1990. وكان المجلس الوطني للحريات بتونس (محظور) قد أصدر قبل نحو شهرين تقريرا مطولا، تضمن شهادات ووثائق ضافية، قال فيه إن محاكمة هؤلاء المعتقلين كانت محاكمة سياسية، استعمل فيها القضاء لتصفية خصم سياسي. ويؤكد المراقبون أن تأسيس الجمعية الدولية لمساندة المساجين مؤخرا، وتسليطها الضوء على أوضاع المعتقلين السياسيين، وحديثها عن اعتقال العشرات منهم في زنازين انفرادية منذ أكثر من 12 عاما، فضلا عن الحديث عن وفاة عدد منهم في ظروف غامضة، تسبب في رد فعل عنيف من قبل السلطة، التي تحرص على طي ملف الاعتقال السياسي في البلاد، ومنع إثارته. أوضاع سيئة في عامة السجون ويبدو أن التدهور الحاصل في السجون التونسية، لا يتعلق فحسب بالمعتقلين السياسيين، وأن الأمر يطال عامة مساجين الحق العام أيضا. وقد كشف المقال الذي أعده الصحافي هادي بن يحمد في صحيفة /حقائق/ التونسية الأسبوعية أن السجون التونسية تعاني من اكتظاظ شديد، وأنها صارت مؤسسة لتفريخ الجرائم، ولنشر الشذوذ الجنسي، وتدمير الذات البشرية، بحسب قوله. ويجري ابن يحمد مقارنة في نسب المساجين بين تونس وبين الدول المشابهة لها في أوضاعها، ليصل إلى أن تونس تتفوق على العديد من الدول العربية والإفريقية في هذا الجانب. وينقل ابن يحمد عن "المركز الدولي للدراسات السجنية" التابع لجامعة كامبردج البريطانية، أنه يوجد في تونس 253 سجينا لكل مائة ألف نسمة، في حين يوجد 191 سجينا لكل مائة ألف نسمة في المغرب، و111 سجينا لكل مائة ألف نسمة في الجزائر، بالرغم من أوضاع الحرب الأهلية فيها، و24 سجينا لكل مائة ألف نسمة في نيجيريا. ويؤكد الصحافي ابن يحمد، الذي يحاكم من أجل مقاله، أن السجون التونسية تعاني من الاكتظاظ، ومن انتشار الحشرات من بعوض وبق وقمل وفئران، مشددا على أن الاكتظاظ هو "الدابة السوداء" للسجون التونسية. ويضيف أن المعتقل يبقى أكثر من ستة أشهر حتى يحصل على فراش داخل السجن، وأن المعتقلين ينامون في الممرات وقرب بيوت الخلاء، في ظاهرة يسميها المعتقلون "الكدس"، وأن ذلك "يتحول إلى طريقة في النوم يطالب فيها السجين بالاختيار بين النوم على جنبه الأيمن أو الأيسر حتى يتسنى لرفيقه في "الكدس" أن يجد له مكانا بجانبه"، بحسب ما جاء في المقال. ويستطرد قائلا "محظوظون هم الذين يتحصلون على سرير، وقد يتطلب الأمر فترة زمنية قد تطول ستة أشهر أو سبعة، يكون فيها الحصول على "بلاطة" أو "سرير رهين الأقدمية"، مضيفا أن الأسرة تعطى "طبقا للعلاقات الشخصية، ولمن يدفع أكثر، فثمن السرير قد يصل في غرف الاكتظاظ الشديدة إلى خمسين دينارا، أو ربما في أفضل الاحتمالات بعشرين علبة سجائر من النوع العادي"، مشددا على أن الأوضاع في السجون التونسية تخرق جميع القوانين الدولية والمحلية المخولة بتنظيم واقع السجون. ويورد الصحافي ابن يحمد شهادات لعدد من المعتقلين السابقين، الذين خرجوا من السجون بعاهات نفسية مرضية، وعوائد ضارة، مثل الشذوذ الجنسي، أو بأمراض مزمنة، بعضها قاتل، أو بإصابة بالهستيريا والجنون وسائر الأمراض العصبية الخطيرة. كما يتحدث عن انتشار العنف الموجه من الذات وإلى الذات في السجون التونسية، عبر جرح المعتقلين أنفسهم بسكاكين وأدوات حادة، مسجلا أن هذه الظاهرة تبلغ ذروتها في المناسبات والأعياد الدينية والوطنية، وتصل حدا مخيفا، يفوق 90 في المائة في بعض الأجنحة في السجن المدني بتونس العاصمة، المعد لاستقبال 1500 معتقل، ويقيم فيه حاليا أكثر من 6 آلاف معتقل، بحسب إحصاءات للباحث الاجتماعي التونسي سامي بن نصر. قدس برس