وكان فضل القرويين علي عظيما في حلقة اليوم من ذكريات أستاذنا الجليل الدكتور عبد السلام الهراس، نتعرف على شيوخ أجلاء وأساتذة وعلماء ظاهرين وأخفياء، كان لهم الفضل العظيم عليه وعلى طلبة العلم بالقرويين، وعلى إعادة الروح إلى تلك المؤسسة العلمية العتيقة العتيدة. وحلقة اليوم هي استمرار لحلقة الأسبوع الماضي حيث كان أستاذنا شرع في استعراض الحلقات العلمية التي شهدها وتربى فيها.ش قلت إن الفقيه عرفة كان من مفاخر المغرب في القراءات والتجويد وهو الوحيد فيما أعلم ممن كان يدرس هذا العلم بالقرويين خارج النظام ولم يكن هذا العلم مقررا في أسلاك التعليم بالقرويين وعلمت أنه رحمه الله استجاب للتدريس لهذا العلم بطلب من الشيخ محمد بن العربي العلوي رحمه الله. لكن اللافت للنظر أن الأمر لم يكن هكذا بين الرجلين إنما اجتمعا مع ملك البلاد محمد الخامس رحمه الله الذي حث القاضي السيد عرفة أن يحيي هذا العلم بالقرويين لأنه على وشك الاندثار كما أبلغ ذلك الشيخ ابن العربي رحمه الله الملك المهتم بعلوم الإسلام. ومما يجب ذكره ولو استطرادا أن القراءات القرآنية بالمغرب كانت على وشك الاندثار لولا أن الله قيض لها مولاي الشريف العلوي رحمه الله (والد أخينا مولاي علي العلوي) الذي زهد في الدنيا وهب كالولهان الخائف على المصير المحزن لهذا العلم، فصار يطوف على بعض مدن المغرب ويعرض نفسه على من وفقه الله ويعقد حلقات هنا وهناك وهنالك وقد وجد استجابات من بعض من وفقهم الله وفي مقدمتهم: الحاج المكي بن كيران الذي يعتبر بيته معهدا للقراءات أثناء حياته وبعد مماته وقد أكرمه الله بصدقات جارية من ذريته وطلابه... رحمه الله رحمة واسعة... وقد كنا نستفيد من بعض الحلقات العلمية الصغيرة في البيوت، ومن هذه البيوت التي أخذت منها بيت شيخنا مولاي أحمد الشبيهي رحمه الله الذي فتح لنا بيته ومكتبته العامرة، فقد كنا نستفيد من علمه ومكتبته وكان مبرزا في الفقه والتوثيق والنحو، ومن العلماء النوابغ الذين كانوا يلازمونه: الأستاذ محمد الزيزي حفظه الله أما جماعة الطلاب الملازمة له فمنهم: العبد الفقير إلى الله والفقيه القاضي محمد العراقي والأستاذ محمد بن الحاج محمد عمور الذي ما تزال أخوتنا مترابطة والحمد لله إلى اليوم. ولا أحب أن أنسي فقيها بسيطا كان يفيد بعض الطلاب المبتدئين من البادية كان اسمه ولد هشومة فقد كان رجلا فقيرا ويتقن بعض العلوم مثل النحو والفقه في المستوى الأولي مثل الأجرومية وميارة الصغير علي ابن عاشر فكان يدرس العلمين لبعض الطلاب المبتدئين، وعندما يريد طالب أن ينكت على طالب آخر أثناء المذاكرة أو المناقشة يقول له: اذهب تدرس على ولد هشومة. ليت لنا الآن مئات من هذا النوع، فالأمية في العلوم الإسلامية ولاسيما الضروري منها اكتسحت البوادي بل والمدن... ولولا أن الله تداركنا ببعض الشباب الذين وهبوا أنفسهم لهذه العلوم في المستوى الجامعي لكان المغرب اليوم يستورد من الخارج من يعلم الناس الضروري من الدين. أول ما دخلت للقرويين بعد نجاحي في الابتدائية سنة 1946 1949 وجدت نفسي أمام كتب يصعب فهمها مستقبلا وعلوما جلها جديد علي، وقد أكرمنا الله في عامي الأول بالأستاذ علال الجامعي الذي كان يشرح لنا الشيخ خليل شرحا واضحا، ثم جاءنا أستاذ آخر وهو الأستاذ أحمد الحبابي الذي كان يدرسنا بعض المواد منها: النحو والصرف وقد كان الرجل حفظه الله وبارك في عمره واضح العبارة يتصرف في إعادة تصرف الخبير حتى تبدو أمامنا سهلة سائغة بعدما كنا قبله لا نكاد نفهم شيئا إذا كان كتاب الصرف اسمه مفتاح الأقفال فكنا نسميه إقفال الأقفال. ولولا هذا الرجل لكان مصير بعضنا الرسوب ومنهم: أنا الذي جئت من مدرسة ابتدائية عصرية تدرس كتبا حديثة مع الإسبانية وكان بالقرويين أساتذة وشيوخ ذوي مستويات مختلفة: أذكر جيدا أنه من خيرة أساتذتنا الذين استفدنا منهم كثيرا الأستاذ عبد الله الداودي هذا الرجل الذي تعلمنا منه منهج دراسة النصوص الفقهية. وكان رحمه الله يدرسنا فقه القضاء تحفة ابن عاصم، وما أظن أن أحدا يخالفني في أنه كان آية من آيات الله في درسه وعلمه... فقد كان يعجبه الطالب الذي يتصرف تصرفا يدل على فهمه وإدراكه وملكته وقدرته على ترتيب أفكاره أثناء التحليل والتركيب والمقارنة والاستنتاج والإدلاء بالرأي العلمي مع تعزيز ما يقول بالدليل والحجة... أما الجواب المعتمد على مجرد الحفظ ونقل ما هنالك فكان رحمه الله يقول: أنت نسخة مكررة من المطبوع. ومن شيوخ القرويين الذين استفدنا منهم منهج دراسة النصوص وتحليلها وتذوقها والتعمق في معانيها: الأستاذ عبد الكريم العراقي حفظه الله وبارك في عمره فقد كان أستاذ مادة الأدب وكان بارعا في تحليل النصوص الأدبية وهو من النوادر ليس في المغرب فقط بل حتى في المشرق، وكان هو والأستاذ عبد الله الداودي رحمه الله كفرسي رهان فالأول في الأدب والثاني في الفقه وكانا صديقين حميمين وأظن أنه لو تبادلا تدريس المادة ما قصر أحدهما عن الآخر. وكان بيننا وبين الأستاذ بين علاقة طيبة. ومن أساتذتنا الذين استفدنا منهم أيضا تحليل النصوص الفقيه الشريف السيد محمد بن عبد القادر الصقلي. ومما أذكر أنه كان يدرسنا الأربعين النووية وقد قضى أكثر من شهرين في تدريس الحديث الأول والثاني، وقد أخذ منه تحليل وتدريس أسلوب القصر بمناسبة ورود إنما أربعة دروس أو أكثر زيادة على إيراده روايات الحديث المختلفة والتصريف بالرواة إلى غير ذلك... وكان هناك شيوخ آخرون نالوا شهرة بين الطلاب ولم يقدر لي أن أدرس عليهم من هؤلاء: الشيخ محمد بناني الذي تولى القضاء أواخر الأربعينيات، والفقيه محمد بن الحسن الزرهوني كان آية في الفهم والتفهيم، وكان يذكر الشيوخ الكبار بوالده سيدي الحسن الزرهوني العمراني حجاج. وبالمناسبة فإن أصل هذه الأسرة الشريفة الكريمة من شفشاون ومازال بنوا عم أعمامهم لهم آل حجاج العمرانيون بتطوان. ومن الشيوخ الكبار الذين الشيخ محمد العلمي مدرس علم التوقيت وهو أقل علومه، والفقيه أبو بكر جسوس والفقيه بن الحاج السلمي والفقيه علامة المغرب العباس بناني والفقيه محمد بن عبد الطاهري والعالم الجواد الصقلي وكان هناك شباب صاعد كانوا في المستوى اللافت للنظر. وباختصار فإن القرويين في هذه السنوات كانت مزدهرة بالعلم والوطنية والاجتهاد والتنافس الشريف وإني مدين للقرويين في تكويني العلمي الذي كان زادا قويا لي عندما انتقلت للدراسة في سوريا ولبنان ومصر.