زوجة صالحة بعد عام من الدعاء اجتاز عبد العزيز الامتحان الشفوي لنيل شهادة الإجازة، ولم ينتظر الإعلان عن النتائج، لأنه كان واثقا من النجاح، ولكنه كان يحس أن نجاحه أو رسوبه سيان، ما دام أفق العمل الرسمي مسدودا في وجهه وفي وجه زملائه الخريجين، ولأنه كان يعلم أن الامتحان والنجاح الحقيقيين ينتظرانه خارج أسوار الجامعة، حيث سيواجه عالما آخر يختلف تمام الاختلاف عن عالم الكتب والمجلدات والطاولات والكراسي وحلقات النقاش في ساحة الكلية أو ساحة الحي الجامعي. مرت الأيام والأسابيع ومر موسم امتحانات ومباريات الشغل والمعاهد والمدارس المتخصصة، ولم يحصد منه صاحبنا لا منصب شغل ولا مقعدا في مدرج كلية لإتمام دراسته العليا ولا كسب مكانه بين طلبة معهد أو مدرسة متخصصة، فرمى إجازته وراء ظهره، ونسي أنه كان يداعب القلم والأوراق، ولم يجد أمامه إلا معهد الأسواق الأسبوعية وكلية المُوقْفْ ومدرسة الأعمال الشاقة ليكسب قوت يومه. شمر عبد العزيز عن ساعد الجد ومضى يبحث عن رزق الله في الأرض، وكان من مبادئه في الحياة وما يزال أن يطرق أي باب من أبواب الرزق مهما كان، وكان شرطه الوحيد أن يكون الرزق حلالا، ولا يهمه بعد ذلك أن يكسبه من فوق كرسي ومكتب وبقلم وورق، أو من باطن الأرض وبفأس وبالة، أو من بين أنياب سوق وبعربة وصناديق، أو بغير ذلك من وسائل الكسب الحلال. بعد مدة أحس عبد العزيز أنه ينتج وأنه مواطن صالح نافع، كيف لا وهو قد أصبح على الأقل يكفي أباه مؤونته ويساعده أحيانا على مؤونة الأسرة، غير أنه كان هناك هم يومي يعذبه ويؤرقه، لقد كان يحس دائما أنه قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في الفاحشة، وكان يرى نفسه كل يوم تكاد تزيغ به نحو الزنا والحرام، ويرى تلك الركيعات المعدودة التي يعبد بها ربه تكاد تذروها رياح الشهوات والميل العظيم. وهكذا قرر عبد العزيز بشجاعة المشمر عن ساعده أن يزيد من شجاعته ويبحث له عن زوجة صالحة تحفظه وتحصنه وتعينه على دينه. وكان وما يزال يؤمن إيمانا عميقا ببشرى الرسول صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة حق على الله عونهم، الناكح يريد الإحصان والمكاتب يريد الأداء (أي العبد الذي عزم أن يفتدي نفسه من سيده)، والمجاهد في سبيل الله"، وكان دائما يردد هذا الحديث ويقول: "يكفي شرفا من يبحث عن الإحصان أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعله في مرتبة المجاهد في سبيل الله". استخار عبد العزيز ربه ومضى يبحث بين زميلاته الطالبات والمجازات عمن تقبل منه هذا الحمق وتغامر بمستقبلها من أجل تحصينه. وكان كثيرا ما يواجه بأنه أحمق وبأنه شارد عن السياق الاجتماعي، وكان كلما سئل أين سيجد هذه الأسرة الحمقاء التي سترضى صهرا بمن لا يملك سقفا يأويه ولا منصب شغل قار يغنيه، كان يجيب بأن أغنى الأغنياء الذي لا يخلف قد وعده على لسان رسوله الصادق المصدوق بأنه سيعينه، وكان يستغرب لمن ينكرون عليه مغامرته كيف لا يتراءى لهم معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: >ثلاثة حق على الله عونهم...<، كما كان يرى في ما يعتبره الآخرون مغامرة، توكلا على الله حق توكله، فكان موقنا أنه تعالى سيرزقه كما يرزق الطير، التي تغدو خماصا وتروح بطانا. فمضى يبحث عن ذات الدين، ولم يكن له شرط آخر غير ذات الدين، كي تترب يداه. عرض عبد العزيز فكرة الزواج على الفتاة الأولى فاستغربت مغامرته وجرأته واعتذرت له بقلة ذات يده، ونصحته فوق ذلك أن يعدل عن هذه الفكرة حتى يجد منصب شغل، ومضت شهور قليلة تجدد فيهن عزمه على البحث عن شريكة عمر تحصنه، فعرض الفكرة مرة ثانية على فتاة أخرى ذات دين فقبلت وتحمست وقاسمته نفس الأفكار، غير أنه يوم خطبتها من أسرتها صدم ثانية بفكر لا يرى في الرجل سوى دريهماته ومركزه الاجتماعي، فعاد من الخطبة بخفي حنين، وعاد معهما بقلب ونفس منكسرين، وبدأ يتسرب إليه اليأس وكاد يحتقر نفسه ويسير مع التيار العام، وقرر أن ينسى فكرته المغامرة ويركن إلى ما ركن إليه غيره من الناس، لكن شهورا معدودة أخرى كانت كافية لتتأجج في نفسه من جديد رغبة جامحة في الإحصان، فقرر أن يتوجه إلى الله تعالى بالدعاء لأنه هو الوحيد الكفيل بأن يفرج كربته. بدأ عبد العزيز يدعو الله في كل صلاة فرض أو نافلة بالدعاء التالي: "اللهم إني أسألك زوجة صالحة تعينني على عبادتك"، ومضى عام كامل ولم تخل صلاة من صلواته من هذا الدعاء، وفي العشر الأواخر من رمضان استجاب الله دعاءه وظفر بزوجة صالحة أكثر مما كان يتصور، بل اكتشف أنها هي أيضا كانت تدعو بنفس الدعاء في كل صلاة أزيد من عام.