سنحاول، عبر حلقات يومية، أن نرافق هنا قصة امرأة مغربية استثنائية، إسمها ثريا الشاوي.. ولمن لا يعرف ثريا الشاوي، فإنها كانت وعدا مغربيا جميلا، ومثالا مشرفا للمرأة المغربية، كونها كانت أول طيارة مغربية في زمن كانت حتى الطيارات الأروبيات والأمريكيات واليابانيات قليلات جدا، بل تعد على رؤوس أصابع اليد الواحدة. هي عنوان اعتزاز لكل مغربي، وإذ نستعيد ذاكرتها اليوم فإنما نستعيد جوانب مشرقة من ذاكرة المغاربة الجماعية. ورغم أنها قتلت في أول سنة للإستقلال، في واحدة من أبشع الجرائم السياسية في المغرب، فإنها بقيت خالدة، وطوى النسيان قتلتها. إننا سوف نرافق قصة حياتها، كما صدرت في كتاب جديد للأستاذ عبد الحق المريني مدير التشريفات والأوسمة، أصدرته مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، بعد أن كان يعتقد أنه وثيقة ضاعت إلى الأبد، كون الطبعة الأولى للكتاب صدرت سنة 1956، باسم مستعار لشاب مغربي وطني طموح، هو الأستاذ عبد الحق المريني.. هي قصة أخرى لعنوان من عناوين الشرف في هذه البلاد، نسعد أن نقدمها للناس وللأجيال الجديدة.. كانت الإذاعة، في النصف الأول من القرن العشرين، ( وإلى حدود منتصف الستينات منه، على وجه التحديد )، هي وسية الإعلام الثورية التي تكيف الآراء وتوجه الناس، وتعمم المعلومة. بل إنها كانت أداة إيديولوجية لا يفرط فيها أي صاحب قرار سياسي. مثلا، في الحربين العالميتين الأولى والثانية، كان الراديو مجالا من المجالات الكبرى لصناعة المنعرجات الحاسمة في معارك تلك الحربين، مثلما أنه في زمن مواجهة الإستعمارين الإسباني والفرنسي للمغرب، كان الراديو وسيلة حاسمة لتنوير المغاربة بحقهم في الحرية والإستقلال والتقدم. ولعل ما تختزنه ذاكرتنا الجماعية، من الدور الذي لعبته الإذاعة المصرية « صوت العرب » ( لا تزال هذه الإذاعة قائمة إلى اليوم بالقاهرة، ولا تزال تعمل بذات الروح المهنية، وإن بتأثير أقل عربيا )، يستحق بحثا جامعيا رصينا، يؤكد أهمية الدور الذي لعبته الإذاعة في حياة المغاربة وفي العالم آنذاك. لقد كانت الإذاعة، تلعب ذات الدور الذي تلعبه الصورة اليوم، من خلال القنوات الفضائية التي بلا عدد في عالمنا العربي. بل إن الواحد منا يستطيع الجزم، مغربيا على الأقل، أنه إذا كان المغاربة اليوم، في غالبتهم العظمى، تصنعهم خبريا وسلوكيا وثقافيا وسياسيا، قنوات فضائية مثل « الجزيرة » ، « إقرأ » و « المنار » ( وهي للأسف جميعها قنوات تلفزية فضائية في خصومة واضحة مع المصلحة المغربية كأمة وكدولة وكبلد، بسبب من العطب الهائل الذي يطال صورتنا الإعلامية المتلفزة في 1 زنقة البريهي بالرباط، وفي الكلمتر 7 بعين السبع بالدارالبيضاء )،، إذا كان للتلفزيون هذا الدور الهائل والخطير اليوم، فإن من كان يصنع الرأي العام المغربي خلال الأربعينات والخمسينات والستينات هو المذياع ( إذاعة « صوت العرب » المصرية وإذاعة « البي بي سي » اللندنية ببريطانيا العظمى ). وما يهمنا من هذا المعطى، في حلقة اليوم، هو ذلك الإحتفاء الذي خصصته كبريات الإذاعات العالمية، وبمختلف اللغات، لإعلان نجاح الشهيدة ثريا الشاوي في امتحان الطيران بمدرسة « تيط مليل » بالدارالبيضاء، سنة 1952. وتأكيدها في قصاصاتها الخبرية، خبر نجاح أصغر امرأة في العالم في امتحان لقيادة الطائرات، كونها لم تكن تتجاوز 16 سنة من عمرها. وهو الخبر الذي هز العالم كله، خاصة عالم الطيران، وجعل البرقيات تتوارد عليها عبر التلكس من مختلف مناطق أروبا وأمريكا والعالمين العربي والإسلامي. ولعل من أهم الرسائل التي تعنينا مغربيا حينها، رسالة بطل الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي من القاهرة. وكذا رسالة أول ربانة طائرة فرنسية، السيدة « جاكلين أريول »، ومن ملك تونس والإتحاد النسوي الجزائري والإتحاد النسوي التونسي ومن ملك ليبيا، ومن الأستاذ علال الفاسي. فيما كان الحدث الأكبر استقبالها ثلاثة أيام بعد إعلان نجاحها، بالقصر الملكي بالرباط، من قبل الملك الوطني محمد الخامس رحمه الله، مصحوبة بوالدها عبد الواحد الشاوي، وقدم لها جلالته باقة ورود، مخاطبا والدها: « هكذا أحب أن يكون الآباء ». فأجابه: « هذه تمرة توجيهاتكم السامية وتشجيعاتكم الغالية ونصائحكم الثمينة »، فرد الملك الوطني قائلا: « بدأنا والحمد لله نجني ثمار ما غرسناه بأيدينا ». ( التفاصيل الكاملة لهذا اللقاء، كما دونها الأستاذ عبد الحق المريني، سنعود إليها في حلقة خاصة فيما بعد ).. لكن، هل كان ذلك النجاح يسيرا وبدون ثمن وبلا منغصات ومشاكل؟!.. سيفاجئ القارئ، بما دونه لنا الأستاذ المريني في كتابه / الوثيقة، من معلومات جد هامة. ولعل ذلك، يقوم دليلا آخر من بين أدلة كثيرة، على أهمية هذا الكتاب من الناحية التوثيقية والتاريخية. ولعل الكثير من تفاصيله تصلح مادة سينمائية أو تلفزيونية مسلسلة، تعلي من قيمة امرأة مغربية، ومن قيمة المغاربة أمام أنفسهم وأمام العالم. لنقرأ التفاصيل مرة أخرى، ولنتأمل، باعتزاز، أن ثريا الشاوي منا، وأننا كمغاربة إذ نتقمص جميعا مسيرتها وذكراها، نكبر في عين الحياة، وأمام أنفسنا، ونشكر الله أن كانت بيننا فتاة إسمها ثريا الشاوي. في الصفحة 21، كتب الأستاذ عبد الحق المريني، بأسلوبه الأدبي الذي كان ميزة سنوات الخمسينات وما قبلها في كل كتابة مغربية وطنية أصيلة، كتب يقول: « بعد مضي أربعة أشهر من التدريب، عزمت المرحومة أن تتقدم لخوض معركة الإمتحان، للإحراز على شهادة الكفاءة في الطيران، لكنها وجدت عراقيل نصبت في طريقها لتعوقها عن أخذ هذه الشهادة. فبعد إلحاحات، وتسويفات، ومناورات، سمح أبوها لنفسه أن يلتزم بالمصاريف، وقيمة الطائرة، ويتحمل مسؤولية حياة ابنته. ليأذن لها في نيل الشهادة. ومن القوانين التي كانت متبعة، أن لجنة الامتحان، كانت تؤجله حينما كان يبدو الجو مكفهرا، ويملأ الضباب أرجاء الأفق، ومن سوء الحظ كان يوم إجراء الإمتحان يوما مكفهر المحيا، ولم تؤجل اللجنة كعادتها، بل أمرتها بالخوض في المعركة. فكان النجاح حليفها. فبهرت عقل اللجنة، خصوصا لما حلقت على علو 3000 متر، وقطعت مسافة على شكل دائرة محيطها 40 كيلو مترا. ولما وصلت إلى وسط المطار، أسكتت المحرك، ونزلت بدونه إلى المكان الذي كانت فيه لجنة التحكيم تنتظر، والتي كانت متيقنة برسوبها التام. ولكن خاب الظن، ولم يقدر رئيس اللجنة، مدير المطار المدني، أن يملك شعوره بل ذهب إلى ثريا قبل أن تنزل الى البسيطة، وحملها على ذراعيه إعجابا، وتقديرا، حتى وصل بها الى القاعة التي ستؤدي فيها ثريا الامتحان الشفوي. وهنا قبلها أبوها قبلة أودع فيها كل معاني الفرح، الذي غمره من جراء فوز ابنته. وقالت له كما خطت في دفتر ذكرياتها: « إنني يا أبي قد كنت أشعر بأسعد ساعة في حياتي، لما كنت قابضة على زمام الطائرة، فما كنت بمضطربة، أو خائفة من الرسوب، بل كنت متيقنة من فوزي التام. فكنت لا أرى إلا ضبابا في ضباب، ولكني كنت حذرة، أشد الحذر، على الاحتفاظ بتوازن الطائرة، وعدم الخروج عن إطار ما حددوه لي. فكنت أحسب نفسي كطائر أشارك الطيور في دنياها واستمتع بالحرية الكاملة. وحيدة يؤنسني صوت محرك طائرتي وتقودني معارفي في معلوماتي، رائدي الإيمان! محروسة بعناية الله وتوفيقه وما توفيقي إلا بالله»! ثم جازت الامتحان الشفاهي وكان على أحسن ما يرام. فقام رئيس اللجنة وقال لأصدقائه، هذه هي أول مرة في حياتي أجريت أصعب امتحان من نوعه. وفي الغد نشرت جرائد ومجلات العالم الخبر وأعلنت محطات الإذاعات العالمية بنبأ فوز أصغر طيارة في العالم بشهادة الكفاءة في الطيران، فقدم إليها من الخارج مندوبو الصحف والإذاعات وأقاموا معها استجوابات وأخذوا لها صورا عديدة وتلقت وابلا من الرسائل وبرقيات التهاني والإعجاب. في هذا اليوم شعرت الفتاة المغربية بعزتها وأبانت على مقدرتها وتفوقها. في هذا اليوم أعطت ثريا الشاوي أروع الأمثلة في التضحية والشهامة، وقدمت للفتاة المغربية درسا في البطولة والإقدام، في هذا اليوم نفخت ثريا في الفتاة المغربية روحا جديدة، أنقذتها من خمودها، ونزعتها من ركودها. في هذا اليوم شعر المغرب أمام العالم، بفخر لأنه قد أنجب فتاة بهرت العقول بشجاعتها، وكفاءتها، في زمن كانت الحياة متوترة بين القصر والإقامة العامة».