ألقى صاحب الجلالة الملك محمد السادس عشية يوم الجمعة 10-10-2003 خطابا ساميا في افتتاح الدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية السابعة للبرلمان .وفي ما يلي نص الخطاب الملكي السامي: "الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه حضرات السيدات والسادة البرلمانيين المحترمين، إننا، بافتتاح هذه الدورة البرلمانية، نستكمل تجديد المؤسسات الدستورية، مجسدين إرادتنا الملكية الراسخة، في إعطاء المسار الديمقراطي طريقه القويم، كخيار لا رجعة فيه، مهما تكن دقة التحديات الوطنية والدولية.
وإذا كنا معتزين بإنجاز هذه النقلة النوعية، فهل معنى ذلك أننا بلغنا الكمال الذي نتوخاه ؟ لقد أكدنا مرارا، ألا ديمقراطية بدون ديمقراطيين، وأن الديمقراطية طريق شاق وطويل، وليست ميدانا صوريا لحرب المواقع، بل هي مواطنة ملتزمة، وممارسة لا محيد عنها، لحسن تدبير الشأن العام، ولاسيما المحلي منه. ولا يمكن تحصينها إلا بترسيخ ثقافة المواطنة المنوط بالأحزاب السياسية، وهيئات المجتمع المدني، وبتحسين الأحوال المعيشية للمواطن ، حتى يلمسها في واقعه اليومي.
وكيفما كان تركيب المجالس المنتخبة، فإننا لن نكف عن طرح السؤال الجوهري: هل يعد الانتخاب غاية في حد ذاته، ونهاية المطاف ؟ كلا، فإن احترام الإرادة الشعبية يقتضي نبذ عقلية ديمقراطية المقاعد، والالتزام بفضيلة ديمقراطية التنمية.
وفي أفق استخلاص كل العبر، من انتخاب المجالس التمثيلية واستيفاء شروط عقلنتها، فإننا نكتفي اليوم بوقفة خاصة عند تجديد انتخاب الجماعات المحلية، التي تجسد ديمقراطية القرب والمشاركة، والقاعدة الصلبة لمجلس المستشارين.
وإننا لننتظر من الجماعات المحلية، طي صفحة المنافسة الانتخابية العابرة، وفتح الأوراش الحيوية للعمل الجماعي، دون استسلام لصعوبة التحديات، بوضع مخططات للتنمية المحلية،لإنجاز أسبقيات السكن اللائق، والاستثمار المنشود، والتشغيل المنتج، والتعليم النافع، وتوفير العيش الكريم. وهذه هي محفزات المواطنين، الذين يجب إشراكهم الفعلي والمتواصل، في تحقيق المشاريع التنموية، المستجيبة لانشغالاتهم الحقيقية. وتلكم سبيلكم لإعادة الاعتبار للديمقراطية المحلية بما هي تواصل دائم مع المواطنين، وليست مجرد لحظة انتخابية موسمية.
ومع تهانئنا للمنتخبين الجدد، واعتزازنا بارتفاع نسبة الشباب الأكثر تأهيلا، فإن التمثيل الضعيف للنساء في الجماعات المحلية يجعلنا نتساءل: إلى متى سنتستمر في اللجؤ إلى التمييز الإيجابي القانوني، لضمان مشاركة واسعة للمرأة في المؤسسات ؟ لا ريب أن الأمر يتطلب نهضة شاملة، وتحولا عميقا في العقليات البالية والوعي الجماعي، وفتح المجال أمام المرأة، بما يناسب انخراطها في كل مجالات الحياة الوطنية، لما أبانت عنه من جدارة واستقامة وتفان، في خدمة الصالح العام.
لقد توخينا، في توجيهاتنا السامية لهذه اللجنة، وفي إبداء نظرنا في مشروع مدونة الأسرة، اعتماد الإصلاحات الجوهرية التالية:
أولا :تبني صياغة حديثة بدل المفاهيم التي تمس بكرامة وإنسانية المرأة. وجعل مسؤولية الأسرة تحت رعاية الزوجين. وذلك باعتبار " النساء شقائق للرجال في الأحكام"، مصداقا لقول جدي المصطفى عليه السلام: وكما يروى: " لا يكرمهن إلا كريم ولا يهينهن إلا لئيم ".
ثانيا: جعل الولاية حقا للمرأة الرشيدة، تمارسه حسب اختيارها ومصلحتها، اعتمادا على أحد تفاسير الآية الكريمة، القاضية بعدم إجبار المرأة على الزواج بغير من ارتضته بالمعروف:» ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف». وللمرأة بمحض إرادتها أن تفوض ذلك لأبيها أو لأحد أقاربها.
ثالثا: مساواة المرأة بالرجل بالنسبة لسن الزواج، بتوحيده في ثمان عشرة سنة، عملا ببعض أحكام المذهب المالكي، مع تخويل القاضي إمكانية تخفيضه في الحالات المبررة، وكذلك مساواة البنت والولد المحضونين في بلوغ سن الخامسة عشرة لاختيار الحاضن.
رابعا : فيما يخص التعدد، فقد راعينا في شأنه الالتزام بمقاصد الإسلام السمحة في الحرص على العدل ، الذي جعل الحق سبحانه يقيد إمكان التعدد بتوفيره ، في قوله تعالى « فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة»، وحيث إنه تعالى نفى هذا العدل بقوله عز وجل «ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم «، كما تشبعنا بحكمة الإسلام المتميزة بالترخيص بزواج الرجل بامرأة ثانية ، بصفة شرعية لضرورات قاهرة وضوابط صارمة، وبإذن من القاضي، بدل اللجؤ للتعدد الفعلي غير الشرعي ، في حالة منع التعدد بصفة قطعية.
ومن هذا المنطلق فإن التعدد لا يجوز إلا وفق الحالات والشروط الشرعية التالية:
لا يأذن القاضي بالتعدد إلا إذا تأكد من إمكانية الزوج في توفير العدل على قدم المساواة مع الزوجة الأولى وأبنائها في جميع جوانب الحياة، وإذا ثبت لديه المبرر الموضوعي الاستثنائي للتعدد.
للمرأة أن تشترط في العقد على زوجها عدم التزوج عليها باعتبار ذلك حقا لها، عملا بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: « مقاطع الحقوق عند الشروط». وإذا لم يكن هنالك شرط، وجب استدعاء المرأة الأولى لأخذ موافقتها، وإخبار ورضى الزوجة الثانية بأن الزوج متزوج بغيرها. وهذا مع إعطاء الحق للمرأة المتزوج عليها، في طلب التطليق للضرر.
خامسا : تجسيد إرادتنا الملكية ، في العناية بأحوال رعايانا الأعزاء ، المقيمين بالخارج ، لرفع أشكال المعاناة عنهم، عند إبرام عقد زواجهم. وذلك بتبسيط مسطرته، من خلال الاكتفاء بتسجيل العقد بحضور شاهدين مسلمين، بشكل مقبول لدى موطن الإقامة، وتوثيق الزواج بالمصالح القنصلية أو القضائية المغربية، عملا بحديث أشرف المرسلين « يسروا ولا تعسروا».
سادسا: جعل الطلاق حلا لميثاق الزوجية يمارس من قبل الزوج والزوجة كل حسب شروطه الشرعية وبمراقبة القضاء. وذلك بتقييد الممارسة التعسفية للرجل في الطلاق، بضوابط تطبيقا لقوله عليه السلام:» إن أبغض الحلال عند الله الطلاق»، وبتعزيز آليات التوفيق والوساطة، بتدخل الأسرة والقاضي. وإذا كان الطلاق، بيد الزوج، فإنه يكون بيد الزوجة بالتمليك. وفي جميع الحالات، يراعى حق المرأة المطلقة في الحصول على كافة حقوقها قبل الإذن بالطلاق. وقد تم إقرار مسطرة جديدة للطلاق، تستوجب الإذن المسبق من طرف المحكمة، وعدم تسجيله إلا بعد دفع المبالغ المستحقة للزوجة والأطفال على الزوج. والتنصيص على أنه لا يقبل الطلاق الشفوي في الحالات غير العادية.
سابعا: توسيع حق المرأة في طلب التطليق، لإخلال الزوج بشرط من شروط عقد الزواج، أو للإضرار بالزوجة مثل عدم الإنفاق أو الهجر أو العنف، وغيرها من مظاهر الضرر، أخذا بالقاعدة الفقهية العامة:» لا ضرر ولا ضرار»، وتعزيزا للمساواة والإنصاف بين الزوجين. كما تم إقرار حق الطلاق الاتفاقي تحت مراقبة القاضي.
ثامنا: الحفاظ على حقوق الطفل بإدراج مقتضيات الاتفاقيات الدولية، التي صادق عليها المغرب. وضمان مصلحة الطفل في الحضانة من خلال تخويلها للأم ثم للأب ثم لأم الأم. فإن تعذر ذلك، فان للقاضي أن يقرر إسناد الحضانة لأحد الأقارب الأكثر أهلية. كما تم جعل توفير سكن لائق للمحضون واجبا مستقلا عن بقية عناصر النفقة، والإسراع بالبت في القضايا المتعلقة بالنفقة في أجل أقصاه شهر واحد.
تاسعا: حماية حق الطفل في النسب، في حالة عدم توثيق عقد الزوجية لأسباب قاهرة، باعتماد المحكمة البينات المقدمة في شأن اثبات البنوة، مع فتح مدة زمنية من خمس سنوات لحل القضايا العالقة في هذا المجال، رفعا للمعاناة والحرمان عن الأطفال في مثل هذه الحالة.
عاشرا: تخويل الحفيدة والحفيد من جهة الأم، على غرار أبناء الابن، حقهم في حصتهم من تركة جدهم، عملا بالاجتهاد والعدل في الوصية الواجبة .
حادي عشر: أما في ما يخص مسألة تدبير الأموال المكتسبة، من لدن الزوجين خلال فترة الزواج: فمع الاحتفاظ بقاعدة استقلال الذمة المالية لكل منهما، تم إقرار مبدأ جواز الاتفاق بين الزوجين، في وثيقة مستقلة عن عقد الزواج ، على وضع إطار لتدبير واستثمار أموالهما المكتسبة، خلال فترة الزواج، وفي حالة عدم الاتفاق يتم اللجؤ إلى القواعد العامة للإثبات بتقدير القاضي لمساهمة كلا الزوجين في تنمية أموال الأسرة.
"حضرات السيدات والسادة البرلمانيين المحترمين:
إن الإصلاحات التي ذكرنا أهمها، لا ينبغي أن ينظر إليها على أنها انتصار لفئة على أخرى، بل هي مكاسب للمغاربة أجمعين. وقد حرصنا على أن تستجيب للمبادىء والمرجعيات التالية:
لا يمكنني بصفتي أميرا للمؤمنين، أن أحل ما حرم الله وأحرم ما أحله.
الأخذ بمقاصد الإسلام السمحة، في تكريم الإنسان والعدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف ، وبوحدة المذهب المالكي والاجتهاد، الذي يجعل الإسلام صالحا لكل زمان ومكان، لوضع مدونة عصرية للأسرة، منسجمة مع روح ديننا الحنيف.
عدم اعتبار المدونة قانونا للمرأة وحدها، بل مدونة للأسرة، أبا وأما وأطفالا، والحرص على أن تجمع بين رفع الحيف عن النساء، وحماية حقوق الأطفال، وصيانة كرامة الرجل. فهل يرضى أحدكم بتشريد أسرته وزوجته وأبنائه في الشارع، أو بالتعسف على ابنته أو أخته ؟
وبصفتنا ملكا لكل المغاربة، فإننا لا نشرع لفئة أو جهة معينة، وإنما نجسد الإرادة العامة للأمة، التي نعتبرها أسرتنا الكبرى.
وحرصا على حقوق رعايانا الأوفياء المعتنقين للديانة اليهودية، فقد أكدنا في مدونة الأسرة الجديدة، أن تطبق عليهم أحكام قانون الأحوال الشخصية المغربية العبرية.
وإذا كانت مدونة 1957 قد وضعت، قبل تأسيس البرلمان، وعدلت سنة 1993، خلال فترة دستورية انتقالية، بظهائر شريفة، فإن نظرنا السديد ارتأى أن يعرض مشروع مدونة الأسرة على البرلمان، لأول مرة، لما يتضمنه من التزامات مدنية، علما بأن مقتضياته الشرعية هي من اختصاص أمير المؤمنين.
وإننا لننتظر منكم أن تكونوا في مستوى هذه المسؤولية التاريخية، سواء باحترامكم لقدسية نصوص المشروع، المستمدة من مقاصد الشريعة السمحة، أو باعتمادكم لغيرها من النصوص ، التي لا ينبغي النظر إليها بعين الكمال أو التعصب، بل التعامل معها بواقعية وتبصر، باعتبارها اجتهادا يناسب مغرب اليوم، في انفتاح على التطور الذي نحن أشد ما نكون تمسكا بالسير عليه، بحكمة وتدرج.
وبصفتنا أميرا للمؤمنين، فإننا سننظر إلى عملكم، في هذا الشأن، من منطلق قوله تعالى « وشاورهم في الأمر»، وقوله عز وجل " فإذا عزمت فتوكل على الله".
" وحرصا من جلالتنا، على توفير الشروط الكفيلة بحسن تطبيق مدونة الأسرة، وجهنا رسالة ملكية إلى وزيرنا في العدل. وقد أوضحنا فيها أن هذه المدونة، مهما تضمنت من عناصر الإصلاح، فإن تفعيلها يظل رهينا بإيجاد قضاء أسري عادل، وعصري وفعال، لاسيما وقد تبين من خلال تطبيق المدونة الحالية، أن جوانب القصور والخلل لا ترجع فقط إلى بنودها، ولكن بالأحرى إلى انعدام قضاء أسري مؤهل، ماديا وبشريا ومسطريا، لتوفير كل شروط العدل والإنصاف، مع السرعة في البت في القضايا، والتعجيل بتنفيذها.
كما أمرناه بالإسراع بإيجاد مقرات لائقة لقضاء الأسرة، بمختلف محاكم المملكة، والعناية بتكوين أطر مؤهلة من كافة المستويات، نظرا للسلطات التي يخولها هذا المشروع للقضاء، فضلا عن ضرورة الاسراع بإحداث صندوق التكافل العائلي.
كما أمرناه أيضا، بأن يرفع إلى جلالتنا اقتراحات بشأن تكوين لجنة من ذوي الاختصاص، لإعداد دليل عملي، يتضمن مختلف الأحكام والنصوص، والإجراءات المتعلقة بقضاء الأسرة، ليكون مرجعا موحدا لهذا القضاء، وبمثابة مسطرة لمدونة الأسرة، مع العمل على تقليص الآجال، المتعلقة بالبت في تنفيذ قضاياها الواردة في قانون المسطرة المدنية، الجاري به العمل.
كما يتعين القيام بحملة إعلامية موسعة، لتوعية كل الفئات الشعبية بأهمية هذا الإصلاح، بمشاركة الفعاليات الفقهية والفكرية والسياسية.
ومهما كانت أهمية القضايا المعروضة عليكم، فإن القضية الوطنية المقدسة للوحدة الترابية للمملكة، تظل في صدارة ما يتعين أن نعبىء أنفسنا جميعا له، داعين إياكم إلى تفعيل الدبلوماسية البرلمانية، في الدفاع عنها، في كل المحافل والمناسبات، بكل إقدام وفعالية، منوهين بالإسهام القوي لممثلي الأقاليم الجنوبية، في المؤسسات المنتخبة، المؤكد لانخراطهم في توجهنا الوطني، لتدبير شؤونهم المحلية، بصفة ديمقراطية، في إطار الوحدة الوطنية والترابية للمملكة، وتراص صفوف شعبنا العزيز حولها بقيادة جلالتنا.
وإني لعازم على المضي بكل الإصلاحات الجوهرية، بمشاركة كل الطاقات الحية، وفي مقدمتها الشباب، لترسيخ روح المواطنة الايجابية لديه، بالإسهام في بناء مغرب الديمقراطية والتضامن والتنمية، الذي نجدد التأكيد على جعل هذه السنة، سنة تقوية ركائزه الكبرى ألا وهي.. الأسرة المستقرة والمدرسة الرائدة والجماعة المعبأة لخدمة الصالح العام، وتوطيد أركان الدولة الديمقراطية القوية، بمؤسساتها الفعالة.