ترأس جلالة الملك محمد السادس مرفوقا بصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد أمس الجمعة بالرباط افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية الثامنة، وألقى جلالته بهذه المناسبة خطابا ساميا أمام أعضاء مجلسي البرلمان. في ما يلي نص الخطاب السامي الذي ألقاه صاحب الجلالة الملك محمد السادس يوم الجمعة بالرباط، بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية الثامنة : « الحمد لله, والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه. السيدات والسادة البرلمانيين المحترمين، نتولى افتتاح هذه السنة التشريعية، إثر مسلسل انتخابي، أفضى إلى تجديد مجالس الجماعات المحلية، وهيآت الغرف المهنية والمأجورين، وثلث مجلس المستشارين. وعلى أهميتها، فهذه الاستحقاقات ليست إلا شوطا في بناء ديمقراطي، ومهما كانت مصاعب مساره، فإننا ماضون في تعهده بالتطوير : تحصينا لمكاسب هامة لا رجعة فيها، وتقويما لما قد يشوبه من اختلالات، لا هوادة في محاربتها، بالإرادة الحازمة، والتعبئة الفعالة. هدفنا الجماعي الارتقاء بالعمل الديمقراطي إلى ثقافة راسخة، ومواقف نابعة من اقتناع عميق، بدل اختزاله في مساطر شكلية، أو مزايدات جانبية عابرة ؛ وذلك على حساب ما هو أهم بالنسبة للوطن والمواطنين. إنه جعل المؤسسات المنتخبة، وعلى رأسها البرلمان، حصنا، لما نريده لبلادنا من ديمقراطية حقة، ورافعة لما نتوخاه لها، من تنمية شاملة، ومواطنة كريمة، ووحدة عتيدة. ويندرج خطابنا في مرحلة متميزة، بإطلاق وتسريع العديد من الإصلاحات الجوهرية، للحكامة الجيدة، والأوراش التنموية الهيكلية. كما يأتي في ظرفية دقيقة، مطبوعة بأزمة مالية واقتصادية عالمية. وهذا ما يقتضي انخراطكم الإيجابي، في المجهود الوطني الجماعي، لمواجهة تداعياتها السلبية، ولجعلها حافزا على الإقدام على الإصلاحات والتقويمات اللازمة. وفي خضم هذا السياق الوطني والعالمي، أصبحت القضايا الاقتصادية والاجتماعية، تتصدر انشغالات المواطنين والمؤسسات. كما تعد محور السياسات العمومية، وجوهر الممارسة الحزبية الجادة، والعمل البرلماني البناء. وهو ما يتطلب تمكين بلادنا، من هيآت للحكامة التنموية، تعزيزا لديمقراطية المشاركة، التي جعلت المغرب نموذجا لانخراط القوى الحية للأمة، في تدبير الشأن العام. ولهذه الغاية، نؤكد الضرورة الملحة، لاعتماد الإطار القانوني للمجلس الاقتصادي والاجتماعي. وفي هذا الصدد، يتعين الحرص على إقامة هذا المجلس وتفعيله، في نطاق من التناسق والتكامل، بين مختلف المؤسسات الوطنية. هدفنا انبثاق نموذج مغربي لمجلس اقتصادي واجتماعي، يشكل بجودة آرائه الاستشارية، هيأة دستورية للخبرة والدراية، بشأن القضايا التنموية الكبرى للأمة. ومن هنا، فإن فعاليته ومصداقيته تظل رهينة بتشكيلة معقلنة، تتكون من خبراء وفاعلين، مشهود لهم بالكفاءة، في المجالات التنموية. كما أن تعددية تركيبته، تقتضي تمثيله للقوى الحية والمنتجة، من هيآت سوسيو - اقتصادية ومهنية، وفعاليات جمعوية مؤهلة ؛ فضلا عن الحضور المناسب للمرأة، في عضويته. وتجسيدا لإرادتنا في إشراك كافة الكفاءات المغربية، أينما كانت، في هذا المجلس، فإنه يتعين أن ينفتح على الطاقات الوطنية، داخل الوطن وخارجه. معشر البرلمانيين المحترمين، إننا ننتظر من هذا المجلس أن يشكل هيأة يقظة، وقوة اقتراحية، في كل ما يخص التوجهات والسياسات العمومية، الاقتصادية والاجتماعية، والمرتبطة بالتنمية المستدامة. كما نريده إطارا مؤسسيا للتفكير المعمق، والحوار البناء، بين مختلف مكوناته، لإنضاج التعاقدات الاجتماعية الكبرى. أما الحوار الاجتماعي اللازم لتسوية نزاعات الشغل المطلبية، فله فضاءاته الخاصة؛ حيث يظل شأنا يتعين على الأطراف المعنية، والسلطات المختصة، معالجته، بروح المسؤولية، والغيرة على المصلحة الوطنية العليا. وعلى الأمد المنظور، يجدر بالمجلس أن يضع في صدارة عمله، بلورة ما دعونا إليه، من إعداد ميثاق اجتماعي جديد، وكذا إبداء الرأي في تناسق وتفاعل المخططات التنموية، والسياسات القطاعية، وتعميق بعدها الجهوي. كما نوجه الحكومة لاتخاذ تدابير الملاءمة، الكفيلة بضمان عدم تداخل أو تضارب اختصاصات المجلس، مع صلاحيات الهيآت العاملة في نفس المجال. وكما تعلمون، فإن المجلس الاقتصادي والاجتماعي هيأة استشارية للجهازين التنفيذي والتشريعي. لذا، فإن حرصنا على الرفع من فعالية عملهما، يجعلنا نتوخى من المجلس الجديد، على الخصوص، إغناء الأداء البرلماني والحكومي، بخبرته ومشورته. وتظل غايتنا المثلى تعزيز مكانة البرلمان ومصداقيته. وهذا ما يقتضي منكم ارتباطا أقوى بالقضايا التنموية الكبرى للوطن والمواطنين. وإننا بتفعيل هذا المجلس الجديد، نضع لبنة أخرى، على درب دعم الحكامة التنموية، التي نريدها دعامة أساسية لترسيخ المواطنة الكريمة والفاعلة. كما نتوخى منها توطيد التضامن الوطني، والعدالة الاجتماعية، وعمادها مواصلة تقويم منظومة التعليم. وذلك بتعميق الوعي بأهمية التقدم الذي تم إحرازه، وجسامة الطريق الطويل، التي تقتضي جهودا دؤوبة، وإيمانا قويا بالدور الحاسم للمدرسة الوطنية، قوام تكافؤ الفرص، والتربية على المواطنة الصالحة، ومنجم التنمية البشرية. وبموازاة ذلك، سنواصل تعزيز ما حققناه من مكاسب هامة، في مجال الحكامة المؤسسية، التي ما فتئنا نعمل على الارتقاء بها، ولاسيما بالإصلاح الجوهري للقضاء، وبالجهوية المتقدمة، واللاتمركز الواسع. وتلكم هي المقومات الأساسية للإصلاح المؤسسي العميق المنشود. إن مغربا جديدا ينبثق من هذه الدينامية الإصلاحية المقدامة، التي أطلقناها ونرعاها، بالمتابعة والتقويم والاستكمال. وبروح الغيرة على حرمة البرلمان، نؤكد لكم أن مصداقية عملكم، رهينة بانخراطكم القوي في إنجاح ما نقوده، من إصلاحات أساسية، والتحركالفعال للدفاع عن مغربية الصحراء. وهذا ما يقتضي منكم انتهاج المبادرات المثمرة، والنقاش الجاد، والتشريع المتقدم، والمراقبة البناءة. وستجدون خديم المغرب الأول، في طليعة العاملين، على ترسيخ بناء مغرب الوحدة والتقدم والاستقرار، والسيادة الكاملة، والكرامة الموفورة. «رب اجعل هذا البلد آمنا، وارزق أهله من الثمرات». صدق الله العظيم. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته».