شكل قدوم وزير خارجية الكيان الصهيوني للمغرب أول أمس الاثنين منعطفا خطيرا في التعاطي المغربي مع القضية الفلسطينية، لا سيما مع اندراج الزيارة ضمن مسعى التطبيع الشامل للعلاقات واستئنافها بعد قطيعة رسمية دامت ما يناهز ثلاثة سنوات، أي منذ 23 أكتوبر 2000 ، فرغم ما تخللها من لقاءات ديبلوماسية شكلية أو خطوات تطبيعية كاللقاء الذي تم مع بيريز أو السماح بإنشاء كازينو طنجة، فقد ظل الموقف المغربي المتشبث بقرار إغلاق مكتب الاتصال الصهيوني بالرباط وكذا المكتب المغربي في تل أبيب علامة بارزة في مواجهة السياسات الظالمة للشعب الفلسطيني، وتأكيد على انخراط المغرب في الإجماع العربي المساند لانتفاضة الأقصى والداعم لاستمرارها. ما الذي تغير؟ ولماذا هذه الزيارة؟ وما الدافع للاحتفاء الإعلامي بها؟ ولماذا الإصرار على المضي فيها في هذا التوقيت بالذات؟ الظرفية العامة للزيارة أخذت مقدمات هذا التحول تبرز مع تشكيل حكومة أبومازن وتتالي الحديث عن ما سمي بخريطة الطريق، ليجري بعد ذلك لقاء بين كل من وزير الخارجية المغربي محمد بنعيسى مع وزير دولة الكيان الصهيوني سيليفين شالوم في نهاية شهر يوليوز الماضي لتعلن بعد ذلك يومية يديعوت أحرونوت عن وجود نية مغربية إعادة فتح مكاتب الاتصال بين الدولتين، والمتتبع لتطورات الساحة الفلسطينية فضلا عن التطورات التي عرفها المغرب يصعب أن يجد أجوبة مقنعة لما جرى، فبين أكتوبر 2000 وشتنبر 2003 ازدادت السياسة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني عدوانية وانتكست فيها جل نتائج اتفاقيات التسوية، بل إن الظرفية الراهنة تعد من اشد المراحل التي عرفتها القضية حيث انهارت الهدنة في ظل مواصلة قوات الاحتلال لسياسة الاغتيالات والتصفيات، والدعم الأمريكي السافر لها، كما اشتد الحصار على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورفض التعامل مع رجاله بل والتهديد بطرده من طرف الكيان الصهيوني من أرض فلسطين، مع تصاعد احتمالات سقوط حكومة أبومازن بفعل الخلاف القائم حول السيطرة على الأجهزة الأمنية بينه وبين الرئيس الفلسطيني، والاستعداد لإجراء اقتراع بالثقة على حكومته في المجلس التشريعي الفلسطيني يوم الخميس المقبل، وتهديده بتقديم الاستقالة في حالة الفشل في حيازة الثقة، مع الإشارة إلى أن التبرير المقدم لتطورات علاقة المغرب مع الكيان الصهيوني ارتكز بالأساس على تأسيس حكومة أبو مازن والإحالة على زيارته للمغرب وطلبه بإعادة فتح مكاتب الاتصال بغية المساهمة في فك الحصار، أي أن التطورات الجارية على أرض فلسطين تؤكد أن الحيثيات التي حكمت الموقف المغربي القاضي بإغلاق مكاتب الاتصال ما زال قائمة وبحدة أكبر. والمثير أن هذا التطور يأتي في سياق الانشغال الوطني بالانتخابات المحلية مما يعيد للأذهان ما جرى في السنة الماضية إبان الانتخابات التشريعية حيث تم عرض فيلم الكاديما لصاحبه المخرج الصهيوني عموس جيتاي ضمن فعاليات المهرجان العالمي للسينما بمراكش، وهو الفيلم الذي يحكي إحدى وقائع عمليات الهجرة اليهودية إلى فلسطين بشكل دعائي سافر، وهو ما تكرر الآن مع الانتخابات البلدية، لكن بشكل أكبر حيث أن الهدف المطروح حسب الرؤية الصهيونية هو الوصول إلى التطبيع الكامل بما يعنيه من احتمالات تبادل السفراء، حسب ما نقلته يومية الحياة اللندنية عن مصادر غربية مضيفة أن المغرب يرهن ذلك بحدوث تطور كاف على صعيد حل أزمة الشرق الأوسط وتنفيذ خريطة الطريق في مرحلة أولى وهو ما جرى تأكيده من طرف وزير الخارجية المغربي محمد بنعيسى عند مجيء وزير خارجية الدولة العبرية، والحاصل أن هذه الخطوة تمثل بداية مسلسل تطبيعي يشرعن خطوات التطبيع المتخفية ويمنح الدعم للمبادرات والخطوات المقبلة، لا سيما وأن الطرف الصهيوني مستعد لاستثمار هذا التحول في الموقف المغربي لأقصى مدى ممكن، بحيث أن مسؤول مكتب الاتصال في الرباط جاهز حيث يجري الحديث عن إسم ديفيد كوهين للقيام بهذه المسؤولية. الزيارة ومسلسل التطبيع مع المنطقة العربية وتندرج هذه الزيارة ضمن مسلسل عام من اختراق المنطقة العربية تم فيه توظيف تعاظم النفوذ الأمريكي في المنطقة بعد احتلال العراق خريطة الطريق وتكوين حكومة أبومازن في أبريل المنصرم، وقد كانت البداية بالعراق نفسه والذي بلغ عدد الشركات الإسرائيلية العاملة فيه بأشكال مباشرة وغير مباشرة إلى حوالي عشر شركات تنشط في مجالات الاتصالات الهاتفية والصناعات الغذائية والنفط وتكرير المياه فضلا عن الاستعداد لمد أنبوب النفط من كركوك إلى حيفا، وقد نقل تقرير إخباري ليومية الحياة الندنية في عددها ليوم 31 غشت المنصرم أن معهد التصدير الإسرائيلي توقع في تقرير له أن يبلغ حجم الصادرات الإسرائيلية إلى العراق، في مشاريع البنية التحتية والتسويق وغيرها من المعاملات التجارية خلال السنوات الثلاث المقبلة نحو مائة مليون دولار، تضاف إليها 50 مليوناً على شكل تمويل غذائي ومستلزمات مماثلة لمئات آلاف الجنود الأميركيين، في نفس السياق يجرى الإعداد لمؤتمر اقتصادي في تل أبيب بمشاركة ممثلين من مصر والأردن والمغرب والبحرين وأبو ظبي، والذي جاء بمبادرة من اتحاد صناعات البلاستيك والمطاط بدولة الكيان الصهيوني، فضلا عن قرار مشاركة وزير المالية ورئيس الوزراء الأسبق بنيامين نتنياهو السفر إلى دبي في الإمارات العربية المتحدة هذا الشهر للمشاركة في مؤتمر صندوق النقد الدولي، وهي كلها مساعي تستهدف العمل على استدراك التراجع الذي عرفته المبادلات الاقتصادية للدولة العبرية مع المنطقة العربية، والبحث عن مشاريع لحل أزمة الاقتصاد الصهيوني المتفاقمة. خلفيات وحيثيات يمكن القول أن خمس حيثيات تكمن خلف الخطوات التي عرفتها علاقات المغرب مع الكيان الصهيوني، وهي إجمالا تتمثل في: استحقاقات الانخراط المغربي في المبادرة الأمريكية للشراكة الشرق الأوسطية، واعتباره أحد النماذج المتقدمة من الطرف الأمريكي في تنزيل برامج المبادرة، وتمثل قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني أحد الاستحقاقات الأساسية لهذه المبادرة، ولقد تم الإعلان عن المبادرة في نهاية السنة الماضية وتم تخصيص إمكانات مالية مقدرة لها، فضلا عن تجدد طرح المبادرات التفصيلية لها حسب هذه الدولة أو تلك. قرب التوقيع على اتفاقية التبادل الحر بين المغرب والولايات المتحدةالأمريكية، والتي تتضمن هي الأخرى مقتضيات تفرض الالتزام بها تيسير العلاقات الاقتصادية مع الكيان الصهيوني، ورفض مبادئ المقاطعة الاقتصادية ومناهضة التطبيع الاقتصادي معه، لا سميا وأن هناك اتفاقية مثيلة بين كل من الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، والجدير بالذكر هنا أن الممثل التجاري الأمريكي روبرت زولويك ناشط بشكل كبير في خدمة الانفتاح الاقتصادي على الكيان الصهيوني من خلال استثمار بوابة اتفاقيات التجارة الحرة. العنصر الثالث يرتبط بتطورات قضية الوحدة الترابية، والتي تعيش مأزقا حقيقيا بعد المشروع الأخير لجيمس بيكر وصدور قرار من مجلس الأمن نهاية يوليوز الماضي بالتباحث حوله والوصول لصيغة بشأنه، وقد انكشف آنذاك التحول الذي طرأ على الموقف الأمريكي وسعيه لفرض صيغة الحل على المغرب، وتطرح هنا مسألة المراهنة على اللوبي المؤيد لإسرائيل بالولايات المتحدة من أجل الدفع في مراعاة أكبر للرؤية المغربية لتسوية النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، لا سميا وأن بعض الأقلام بالولايات المتحدة ما انفكت تحيل على الموقف المغربي إبان مجزرة جنين في أبريل,2002 للتشويش على المغرب والإضرار بمصالحه، هذا بالرغم من أن المؤشرات المتداولة تدل على أن حصيلة السنوات الماضية في مجال التحرك في الساحة الأمريكية لم تثمر ما كان مرجوا بل إن القضية ازدادت تعقيدا. أما العامل الرابع فيتمثل في استثمار التحولات الجارية بعد الإعلان عن اعتماد خريطة الطريق من أجل استعادة الفعالية المغربية في عملية التسوية، وأخذ مكان مؤثر في مسارها، وذلك بعد التهميش الذي تعرض له المغرب في السنوات الماضية، لا سيما بعد الخطوة التي قام بها أبومازن بزيارة المغرب والتعبير عن حاجته للدعم. ويمكن أن يضاف لتلك العوامل الآنفة تداعيات تفجيرات 16 ماي والتي استهدفت كل من النادي اليهودي والمقبرة اليهودية، حيث عمل البعض على استغلالها للدعاية غير المباشرة للتطبيع واعتبار أن النقد الذي كان يوجه لهذا الأخير يتحمل جزءا من المسؤولية المعنوية فيما جرى، إلا أن هذا العامل يبقى هامشا مع ذلك. تبرز مختلف الحيثيات المثارة آنفا أن الزيارة ليست خطوة معزولة بل محكومة برهانات كبرى، مما جعل الإعلام الصهيوني يعتبرها إنجازا كبيرا للدبلوماسية الإسرائيلية، وجاءت كمحصلة لمسار من الاتصالات السرية والعلنية، وبالتالي فهي تمهد لخطوات أكبر وأكثر خطورة، وهو ما يعني أن المغرب سيعرف نشاطا في مجال التطبيع مما سيطرح تحديات أكبر على قوى مناصرة الشعب الفلسطيني ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني. مصطفى الخلفي