سعت مجموعة من الدول الأوربية لظروف سياسية واقتصادية خاصة بعد الحرب العالمية الثانية إلى الاستعانة بمبادئ وضعها مجموعة من منظري المدرسة الليبرالية حول أسس الاندماج الاقتصادي كآلية للانفتاح والحرية التي قام عليها هذا الاتجاه الفكري. والحقيقة أن الاندماج الأوربي في بداياته تزامن مع عاملين أساسيتين، الأول أن الأوربيين دفعوا بمفهوم الثقة إلى مداه خاصة أن القارة والعالم كانا قد خرجا لتوهما من حربين عالميتين طاحنتين. وقد تجلى هذا التوجه في الاتفاقيات التي وضعها الأوربيون كأول عمل على طريق الاندماج الطويل، الاتفاقية الأولى اتفاقية تهم قطاعا مهما كان ولا زال أساس الصناعات الحربية وهو الحديد والصلب، والاتفاقية الثانية همت المجال الذري أو القوة الصاعقة آنذاك. وقعت الاتفاقية الأولى سنة 1951 ووقعت الثانية سنة 1955، وترابط الاتجاه الأمني بالاتجاه الاقتصادي بعد ذلك حين توقيع اتفاقية روما سنة 1957. لم تكن الأمور كلها سالكة فقد كادت المعايير الأمنية أن تعصف بالمشروع الاندماجي بعد رفض فرنسا سنة 1954 توجها دفاعيا أوربيا مشتركا. الجانب الأمني في علاقات الاندماج يكون دائما أساسا للجانب الاقتصادي، لكن العلاقة لا يجب أن تكون في هذا المستوى حاسمة، وإلا كانت نتيجة الاندماج هي الفشل كما هو حال العديد من الأمثلة ومنها النموذج المغاربي. أما العامل الثاني الذي يدخل في نسقية نجاح الاندماج الاقتصادي فهو العامل الخارجي؛ في أوربا، دائما، تزامن التوجه الذي وضع لبنائها مع التحولات الدولية التي فرضتها ضرورة حماية أوربا من التهديد الشيوعي، وبالتالي ساهمت بنية الصراع الدولي في الإسراع بتنزيل البرنامج الاندماجي الأوربي. حطت في ذاكرتي كل هذه الأفكار وأنا أتأمل بعض التصريحات لمسؤولين عن السياسة الخارجية المغربية، والحقيقة أنها تكررت؛ في نونبر 2008 صرح وزير الخارجية الأسبق السيد الطيب الفاسي الفهري في تصوره للاندماج المغاربي باعتباره فضاء يعبر عن مطمح شعبي وخيار استراتجي وضرورة أمنية، وقد عبر السيد يوسف العمراني الوزير المنتدب لدى وزير الشؤون الخارجية والتعاون عن نفس الشيء تقريبا عندما لخص تصوره للاندماج المغاربي في تصريحه للصحافة المغربية أن المغرب العربي هو ثلاث أسس؛ حتمية شعبية وضرورة اقتصادية واستراتيجية وحتمية أمنية. والحقيقة أن الرجل رجل ميدان وممارسة كما هو حال السيد الفاسي الفهري الوزير الأسبق، لكن لربما الحديث عن الاتحاد المغاربي ك"ضرورة" أمنية مسألة سابقة لأوانها من جوانب عديدة؛ أولها أن تناسق الاستراتيجيات المحلية لكل "دولة" على حدة، إن جاز لنا الحديث عن مفهوم الدولة بدون "تبيأتها" كما وضعه الجابري في مشروعه الفلسفي، لا ينسجم والتوجه الاندماجي بها، ولا يرقى لتصور التعاون؛ الجزائر التي تملك استراتيجية عدائية اتجاه المغرب ووحدته الترابية لا يمكن أن تكون شريكا اقتصاديا (من الناحية الاستراتيجية) وبالأحرى أن تدخل في مشروع اندماجي، ليس ذلك فحسب بل إن استراتيجيتها الداخلية، وهي لا تختلف عن نظيرتها المغربية في هذه النقطة، مترابطة مع توجهات دولية وتصورات أمنية لقوى خارجية. هذا ليس عيبا في حد ذاته لكن يجب أن تتوفر حدود دنيا للاستقلالية الاستراتيجية للدول قبل الحديث عن توجهات مترابطة. لا يملك المشروع المغاربي تصورا أو نظرية لا استراتيجية ولا اقتصادية ولا حتى تصور أمني مستقل ومشترك. يبقى إذن الأمل معلقا على ما سماه السيد العمراني "الحتمية الشعبية"، وهي وإن كانت تبدو صيغة غامضة كعامل للاندماج لكنها أساس البناء المغاربي الصحيح؛ الحراك المغاربي هو دعم لفكرة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، التي لن تقوم للمغرب العربي قائمة بدون تعزيزها وتكريسها على كافة الأقطار، وهو شيء تنبه إليه السيد العمراني عندما استدرك قائلا أن "الشفافية والديمقراطية والحكامة الجيدة شروط أساسية ينبغي أن تتوفر في الأنظمة المغاربية لتحقيق الإقلاع المنشود بما يخدم مصالح مغرب عربي ديمقراطي منفتح على العالم مبني على أسس اقتصادية قوية"، لكن السؤال يكمن في ضرورة الإيمان بالديمقراطية كآلية استراتيجية للبناء المغاربي وليس فقط كمطمح فلسفي. آن لهذا المغرب العربي أن يحصل على تصور نظري ناضج لا يكفي أن ننقل النظريات بدون تبيأتها ووضعها في نسق يجعل منها مقبولة في المستويات الحكومية والشعبية وباقي الفعاليات الأخرى، ومن هذا البناء النظري ما يرتبط بالمفاهيم التي وضعها الآباء المؤسسون؛ منها تصور رواد الفكر الإصلاحي قبل وأثناء الاستعمار ورواد حركات التحرر المغاربي من عبد الكريم الخطابي ومحمد الخامس وبورقيبة و علال الفاسي والطريس والمهدي بنبركة وبنبلة ... إلخ، وما يستجد من تصورات نظرية محلية وعالمية حديثة. على أن لا يكون التصور فقط نقلة "نوستالجية" بدون روح حضارية وتصور مستقبلي. يختلف مفهوم الوحدة في تصور الرواد عن نظيره في اتفاقية مراكش 1989 المنشأة لاتحاد المغرب العربي والتي انتهت إلى الجمود في ثلاث نقط على الأقل؛ أولا في مسألة فاعلية الشعب ودوره في بناء نسق اجتماعي موحد، لأن الوحدة لا تصنع فقط بالاتفاقيات بل لا تعدو أن تكون هذه الأخيرة سوى مرآة لتوجه اجتماعي وضرورة اقتصادية أو ما يمكن أن نسميه مصالح الشعوب ومصالح الدول، ولأن منطق الدول سياسي أما منطق الشعوب فمنطق نقي ومبدئي، ولعل ذلك من الأمور التي يجب أن ينتبه إليها كل ساع إلى تفعيل اتفاقية 1989 أو إعادة تحريكها. ثانيا، عدم الارتهان بالقوى الخارجية أو الاستعمارية. وأخيرا بناء شخصية مغاربية على أسس الكرامة والعدل والمساواة، أي بناء نسق نفسي منسجم يتجاوز العقد النفسية التي اختارتها الدول كعامل للصراع كقضية حرب الرمال بين المغرب والجزائر سنة 1963 أو غيرها مما يعطي انطباعا بالعداوة التاريخية وهو أمر كان يخدم السياسيين ولا يخدم الشعوب. لقد تحول الاتحاد المغاربي من ضرورة حضارية إلى مجرد اتفاقية، ولا نريده أن يكون مجرد "حتمية أمنية" في نهاية المطاف، إن الأهم هو مراعاة المعطيات الأمنية لخدمة هذا المشروع الحضاري.