تبين الآن أن استثمار دولة إسرائيل في جنوب السودان كان مجديا على المدى البعيد. ذلك أن جنوب السودان ينخرط في إستراتيجية الإحاطة بالعالم العربي، التي تشمل قبرص والأكراد والبربر، وربما ذات يوم إيران ما بعد الإسلامية. ثم إن هذا البلد الوليد (الجنوب) لديه إمكانية استثمار الموارد الطبيعية الغنية (النفط أساسا)، ولديه وزن في المفاوضات الجارية بشأن مياه النيل وحصة مصر منها. وإلى جانب ذلك فإن تأسيس دولة الجنوب يشكل نموذجا يبعث على الإلهام لمقاومة السكان غير المسلمين للإمبريالية الإسلامية. هذه الفقرة وردت نصا في مقالة نشرتها صحيفة إسرائيل اليوم (في 4/1 الحالي) للبروفيسور دانييل بايبس رئيس منتدى الشرق الأوسط في معهد هوفر. وهو باحث وأكاديمي أمريكي وثيق الصلة بإسرائيل ومشهور بعدائه للعرب والمسلمين. كان كاتب المقالة يعقب على أول زيارة قام بها السيد سلفاكير مارديت رئيس جنوب السودان لإسرائيل، التي وصفها الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بأنها حدث تاريخي مهم. وقد عبر السيد بايبس عن أمله في أن تكثف الدول الغربية وإسرائيل من مساعداتها للدولة الجديدة في مجالات الزراعة والصحة والتعليم والدفاع، بما يمكنها من أن تصبح قوة عظمى في المنطقة حليفة ليس فقط لإسرائيل وإنما للغرب أيضا. كنت قد علقت على زيارة السيد سلفاكير في حينها، منبها إلى ما تمثله من انعكاسات محتملة على الأمن القومي المصري والأمن العربي بوجه عام. لكن النص المنشور يسلط الضوء على جوانب أخرى لها أهميتها أحسب أنها ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد. ذلك أننا كنا نعلم أن الإستراتيجية الإسرائيلية منذ منتصف القرن الماضي اعتمدت سياسة «شد الأطراف» التي وضعها بن جوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل. وانصب تركيزها على إثيوبيا وإيران وتركيا. وهو مثلث الجيران الذي استطاعت إسرائيل أن تثبت أقدامها فيه، للضغط على العالم العربي ومصر في القلب منه بطبيعة الحال. وإلى جانب الضغط من الخارج، فإن الإسرائيليين سعوا منذ ذلك الوقت المبكر إلى إقامة جسور مع الأقليات والجماعات العرقية الأخرى التي تعيش داخل العالم العربي لاستمالتها واستخدامها في الضغط على الأنظمة والتنغيص عليها. وفي الكتيب الذي أعده ضابط الموساد موشي قرجي حول إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان، (صدر عن مركز ديان بجامعة تل أبيب سنة 2003) إشارة إلى أن تلك السياسة استهدفت التواصل مع الأكراد في العراق وسكان جنوب السودان، والموارنة في لبنان، والدروز والأكراد في سوريا، والأقباط في مصر. اختلف الموقف في الوقت الحاضر. إذ خرجت إيران من مثلث التحالف، وخرجت تركيا بدرجة أو أخرى. في حين لاتزال إسرائيل تحتفظ بعلاقاتها مع إثيوبيا التي استخدمت مع كينيا وأوغندا في القفز إلى جنوب السودان. ورغم معاهدة السلام التي أبرمتها مصر مع إسرائيل ولحقت بها الأردن، فإن مساعيها للضغط على مصر والعالم العربي لم تتوقف. فنجاحهم مشهود في كردستان العراق. كما أنهم حققوا نجاحا موازيا في تحقيق هدفهم الإستراتيجي بعدم السماح للعراق بأن يعود إلى ممارسة دوره العربي والإقليمي، والتعبير لوزير الأمن الداخلي الإسرائيلي الأسبق آفي دختر. وهو من قال أيضا في محاضرته الشهيرة إن إسرائيل موجودة في دارفور غرب السودان، وأنهم ومعهم الولاياتالمتحدة حريصون على تمكينه من الاستقلال، على غرار استقلال كوسوفو. حيث الهدف النهائي يتمثل في إضعاف السودان وعدم تمكينه من التحول إلى دولة إقليمية كبرى وقوة داعمة للدول العربية التي يطلق عليها جبهة المواجهة مع إسرائيل. بقيت عندي كلمتان، الأولى أن جهود إسرائيل للإحاطة بالعالم العربي واختراقه بهدف تفتيته لم تتوقف، كما أن إستراتيجيتها التي تستهدف الضغط على مصر وإضعافها لم تتغير رغم مضي أكثر من ثلاثين سنة على معاهدة السلام بين البلدين. ولا أعرف ما إذا كان هذا الموضوع يحظى بما يستحقه من اهتمام من جانب الجهات المعنية في مصر على الأقل أم لا، لكنني أرجو ألا يصرفنا اهتمامنا بالأمن الداخلي عن الانتباه إلى ما يهدد أمننا القومي. الكلمة الثانية أنه في الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل إلى مد الجسور مع الأقليات غير المسلمة لتحريضها على ما سماه الكاتب «بالإمبريالية الإسلامية»، فإن بعض المغيبين والسذج عندنا لا يزالون يرددون السؤال البائس: هل نصافحهم ونهنئهم في أعيادهم أم لا؟