تردد كثيرا مقولة «العلم في الصغر كالنقش على الحجر» من أجل حث الأطفال على الاهتمام بالعلم والسعي إلى طلبه، ويتم تداول عبارة «العلم في الكبر كالنقش على البحر أو النقش على المدر» للتأكيد على صعوبة طلب العلم بالنسبة لكبار السن، رغم أن الواقع المعاش غني بسير أشخاص تحدوا هذه المقولة ورسموا بعزم وإصرار مسارا من الجد والاجتهاد والمثابرة في سبيل التحصيل العلمي.. لم يعتبروا السن عائقا أمام التعلم، ونهجوا سير الصحابة الكرام الذين حفظوا القرآن على الرغم من تقدم سنهم. «التجديد» رصدت أشخاصا اقتنعوا بفكرة أن طلب العلم يكون من المهد إلى اللحد، فعادوا إلى حمل المحابر والدفاتر، وولجوا مدرجات الجامعات رفقة أبنائهم وأحفادهم، ثم مضوا في هذا الدرب بكل إصرار، وتابعت قصص كبار السن من الرجال والنساء ممن افترشوا حصير المساجد وجلسوا على الطاولات الضيقة في المدارس لتعلم الحروف والأرقام، ولما لا تعلم اللغات ومدارسة الكتب. ** «لا يوجد سن لإيقاف التعلم، وطالما توفرت الرغبة فليس هناك مستحيل» هكذا أشارت سعاد، سيدة في الأربعينات من عمرها والابتسامة بادية على محياها، لتبدأ سرد قصة التحاقها بالجامعة لمتابعة دراستها «قررت أن أستمر في هذا الدرب بإيعاز وتشجيع من أبنائي وزوجي». لم تكن سعاد الوحيدة التي ولجت الجامعة في سن متأخرة، وطرقت الباب للحصول على مقعد في مدرج بالجامعة، فكثير من النساء والرجال حققوا أحلاما طاردتهم طوال العمر دون أن يملوا ويسأموا، مقدمين بذلك عناوين للمثابرة وراسمين أجمل الصور وأعظمها في سبيل العلم. خديجة ربة بيت، بلغت سنتها الخامسة والأربعين قبل أربعة أشهر، اضطرت للتوقف عن الدراسة بسبب زواجها منذ التحاقها بالمستوى الأول ثانوي، قبل أن تعود إلى أحضان العلم، تقول «اضطررت للتوقف عن متابعة تعليمي لأني تزوجت في سن مبكرة» وتضيف «لكن رغم أني اكتفيت لسنوات بدوري البسيط كزوجة وأم وربة بيت، لا تبخل بأي شيء من أجل رسم السعادة على وجوه أفراد أسرتها الصغيرة، ظلت رغبتي في متابعة مساري الدراسي قوية». لم تفقد خديجة الأمل في مجالسة زملاء في الصف، وسخرت كل جهدها لتجعل أبنائها الثلاثة متفوقين على مر سنواتهم الدراسية، حتى أصبحوا قادرين على تحمل مسؤولياتهم. تحكي خديجة المقيمة في مدينة مكناس بكل فخر، عن اللحظة التي فاتحت أسرتها في موضوع التحاقها بالجامعة لما حصلت على شهادة البكالوريا الحرة، «لقي مقترحي فرحا وقبولا كبيرا من قبل أبنائي وزوجي الذي ساندني دائما قبل وبعد التحاقي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية إلى جانب بنت أختي قبل سنتين». هكذا روت خديجة قصتها ل»التجديد» عن عودتها إلى أحضان المعرفة بعد سنوات طوال، وبعد أن منحت صغارها الحب والحنان وأدت واجباتها اليومية كربة بيت عادية. لكن المفاجأة، تقول خديجة، لما اكتشفت أنها ستتابع مسيرتها العلمية، إلى جانب بنت أختها التي لم تبلغ ربيعها التاسع عشر بعد، وعلقت مازحة عن ذلك بالقول «على الأقل لم أجد صعوبة في التعرف على أول زميلة في الجامعة». أنا وابني.. !! عادة ما يشرف الآباء على تعليم أبنائهم وتتبع مسارهم الدراسي عن قرب بكل حرص.. ويفتخرون بإنجازاتهم أحيانا ويقدموا لهم النصائح واللوم والعتاب على كل تقصير في أحيان أخرى، لكن ماذا عندما يتحول الأب من مشرف على المسار التعليمي لابنه إلى مرافق له في الجامعة؟ أيمكن تصور الأب زميلا في الدراسة؟ سؤال طرحته «التجديد» على بعض المارة في شوارع مدينة الرباط، فكان رد البعض «مثيرا»، فمن أصل سبعة ممن استطلعت آرائهم أجاب اثنان بالإيجاب، الأول قال «نعم أعرف أبا يسكن حينا»، والثاني أفاد «تعرفت على صديق في كلية العلوم أكدال اجتاز الامتحان إلى جانب أبيه البالغ من العمر حوالي خمسين سنة». ومن بين القصص التي تكشف عن متابعة الأب وابنه للدراسة في صف واحد، قصة أحمد وابنه فؤاد.. التي تبدوا كمقطع من رواية خيالية. تبدأ فصول الرواية قبل أكثر من عشرين سنة، لما بدأ أحمد حياته المهنية في سن مبكرة، دون أن تتاح له الفرصة لإتمام تعليمه الجامعي.. تزوج وعاش حياة هادئة سعيدة كما قال، وتفرغ إلى تربية ولديه الوحيدين، حرصا منه على توفير كل متطلباتهم ودعما لهم في كل وقت وحين.. ولما بلغ ابنه البكر السنة الأخيرة من تعليمه الثانوي، لم يبخل الأب المثابر على دعم ابنه وظل حريصا على مراجعة الدروس بصحبته.. فكانت النتيجة أن تفوق الابن، وتقوت فكرة العودة إلى أحضان المعرفة بالنسبة للأب.. فاجتاز امتحان البكالوريا الحرة بجانب ولده ونجحا معا. بدا الأمر في البداية مجرد مزحة، كما قال أحمد، قبل أن يتحول الأمر إلى حقيقة «ظلت زوجتي تدعمني وابني، الذي أضحى كثير التفكير في اللحظة التي يسابقني فيها على مقعد بالجامعة» يضيف المتحدث ل«التجديد». ولأن العالم لا يخلو من المعجزات ولا يغطيه السواد في كل الفترات، ولا تطغى عليه مرارة الحياة القاسية في كل اللحظات، تحقق حلم أحمد ولم تضع الساعات التي قضاها في الكد استعدادا للامتحان هباء منثورا، وتمكن من الحصول على الشهادة التي تخول له التسجيل بالجامعة بميزة مستحسن. لم تنتهي فصول القصة عند هذا المشهد، وإنما انطلقت فصول أكثر روعة بعدما كتب للأب الذي غطى الشيب كل رأسه أن يظفر بمقعد في كلية الحقوق بجامعة القاضي عياض بمراكش إلى جانب ابنه.. وغدا الاثنين زميلين في الصف، يتشاركان نفس الهموم الطلابية ويسعيان معا إلى تحصيل أرفع النتائج النهائية.. صدق أو لا تصدق، الأب والابن معا طالبان بالجامعة ! تعلق الأم. وبعيدا عن الذين اختاروا العودة إلى عوالم العلوم والتعلم، بعد أن انخرطوا في بناء جيل من الأبناء المتفوقين والحالمين.. رجع البعض إلى الكراسات في سن مبكرة حرصا على الحصول على ترقية في مهنته، والبعض الآخر التحق بعد التقاعد لتجنب الوحدة وبغية ملء وقت الفراغ.. الجامعة بعد التقاعد السي علي رجل من مدينة الدارالبيضاء، اختار الالتحاق بالجامعة بعد الحصول على تقاعده، قال ل»التجديد» «لم أتعود على أوقات الفراغ الطويلة طيلة حياتي، ولم يكن من الممكن أن أظل حبيس البيت بلا عمل اليوم كله»، واعتبر أن التقاعد خلق له فرصة ولادة جديدة، بعد أن حالت ظروف عمله بينه وبين الالتحاق بالجامعة في السابق، وأكد «صار لدي وقت كافي، لألتحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية وأبدأ مشوارا جديدا في التعلم بشعبة الدراسات الفرنسية». وكونه الابن البكر لوالديه اللذان عانيا ظروفا اجتماعية صعبة، أحس السي علي بمسؤولية كبيرة اتجاه إخوته الصغار، فتحملها منذ أولى سنوات شبابه، وضحى بحلمه الخاص الذي رسمه في طفولته، وهو أن يبلغ أعلى مستويات التعلم الممكنة. سرعان ما وجد نفسه يبتعد شيئا فشيئا عن مقاعد الدراسة التي لطالما أحبها وتمنى قضاء أكبر وقت ممكن عليها.. وأصبح محاصرا في سوق الشغل دائم الجري وراء تحصيل لقمة العيش، التي بالكاد تكفي لتغطية الضروري من اللوازم.. لم يندم يوما على ما أوصله قدره، وظل سعيدا راضيا بأنه استطاع أن يخفف ولو القليل عن والديه، وأن يرسم الابتسامة على قدر استطاعته على وجوه إخوته.. وبعد سنوات اكتشف أنه أصبح مسؤولا عن إعالة أسرته الصغيرة، يؤكد السي علي، منتقلا بذلك من دور الابن البار والأخ المحب، إلى دور الزوج المسؤول ورب الأسرة المعيل، ولم يحمل معه إلا مزيدا من التضحيات. حرص السي علي طيلة حياته على توفير كل ما يحتاجه صغاره لعله يحقق من خلالهم حلما طالما اشتاق إليه.. فزاوج بين مهنته كعامل في مصنع مدة ثمان ساعات متواصلة بلا انقطاع بشكل يومي، وسائق أجرة في الساعات الأخرى المتبقية من يومه. مرت السنوات الطوال سريعة وكأنها غمضة عين، وغدا الشاب الحالم رجلا يتحمل مسؤوليات ثقيلة، ابتلعته دوامة الحياة ومشاغلها، وغرق في الجري وراء لقمة عيش حلال.. وتناسى آسفا كل آماله ومناه، وهو يصبر نفسه بأنه قد يرى في أبنائه ما تمناه، وأنهم قد يعوضوه عن كل ما عاناه.. اليوم، السي علي بلغ الستينات من عمره، وانتهت مسيرته العملية دون أن يتحقق شيء مما انتظره، أبنائه الأربعة فشلوا جميعا في مسيرتهم الدراسية، ولم ينجحوا في نيل شهاداتهم التعليمية الأساسية إلا بعد طول تكرار ومعاناة، بل لم يتحصل أي منهم على شهادة البكالوريا التي تفسح المجال للتعليم الجامعي.. وجميعهم باتوا عاطلين عن العمل بدون أي مهارات تذكر، وأكبرهم بلغ ربيعه الثلاثين مؤخرا. بعيون مرفوعة نحو السماء، تسللت بعض الدموع غصبا عن السي علي، كما يسميه أهله ورفاقه المقربون، وهو يتوقف في سرده قصته عند فشل أبنائه في التعلم، قبل أن تتغير ملامح وجهه في لمحة بصر، وتأخذ تجاعيد وجهه في التوسع، راسمة ابتسامة عريضة على محياه، ويقول «الحمد لله انتهت قصة عمري بأجمل ما تمنيته منذ صباي». سألته»التجديد» عن النهاية، فشدد على أنها البداية والولادة الثانية، وقال «اكتشفت أن قطار التعلم لم يفتني، فقد سجلت بالجامعة هذه السنة بعد أن اجتزت البكالوريا بنجاح سنتين بعد حصولي على التقاعد»، وأضاف «أنوي تحقيق الكثير إن أمد الله عمري إن شاء الله».