الكل يعلم أن سياقات «الدستور المغربي الجديد»، التاريخية هي سياقات إصلاحية بالدرجة الأولى، فهي وليدة حراك شعبي اعتمد على مطالب التغيير السياسي والاقتصادي والإصلاح الاجتماعي التي نادت بها الثورات العربية في المغرب العربي وفي الشرق العربي، وبالتالي فإن استباق النظام السياسي بالمغرب وضع خطاطة سياسية للتغيير، كان وسيلة ناجعة لامتصاص غضب الشارع المغربي وإبداء المزيد من الرغبة في تعزيز خيار التغيير والدمقرطة الذي ارتبط منذ فترة طويلة بنظام الحكم في المغرب، وبالضبط بعد انتقال التيارات السياسية اليسارية المعارضة إلى المشاركة في تشكيل حكومة توافق سياسي سنة 1998 وما تلاها من إصلاحات ومشاريع قوانين حاولت أنسنة النظام السياسي السابق الذي كان يطبق على الحياة السياسية والاجتماعية في المغرب بقبضة من حديد ويمانع في قيام ديمقراطية، يتنازل من خلالها عن بعض صلاحياته السياسية والدينية. بعد مرحلة الانتقال السياسي التي استغرقت ما بين 1999 و2011، دون أن تبلور مشروعا ملموسا للتغيير، بدأت منذ 9 أبريل مرحلة الدستور الجديد الذي ينص على تغيير جوهري في نظام الحكم. دستور إصلاحي بمفهوم واسع، يتم تفعيله رسميا، بعد تنصيب برلمان منتخب وحكومة منبثقة عن البرلمان. ولا شك أن المجهود سينصب على خيار الإصلاح وتصحيح المسارات الديمقراطية أولا، لدا فالخطوة الأولى تقتضي تنزيل الدستور بقوانين تصب في هذا الاتجاه، وستكون بلا شك قوانين إصلاحية، فالحاجة في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها البلاد، تقتضي العناية القصوى بمناهج الإصلاح والتصحيح، ومحاربة التطرف الإداري والسياسي، ونبذ الفساد بجميع فروعه، وتقنين وتنظيم المؤسسات الدستورية والإدارية، وعقلنة تدبيرها وتسييرها ومحاربة الهدر والتبذير المالي الملحوظ في النفقات والمصاريف الخاصة بالميزانيات الوطنية والميزانيات الفرعية والجهوية، وترشيد الإنفاق في الإدارات المركزية والجهوية وفي الهيئات المنتخبة على مستوى الجهة والجماعة الحضرية والقروية. وانطلاقا من هذا المعطى الأساسي الذي يمكن اعتباره حجر الزاوية في بناء الدولة المدنية التي انطلقت على يد حكومة «الدستور الجديد» وانتخابات 25 نونبر2011، ستتوفر شروط العمل الحكومي الجيد ويتم تفعيل مضامين الدستور الجديد. فالمغاربة جميعا يتطلعون إلى أن تنكب الحكومة المقبلة على تهيئ برنامج استعجالي للإصلاح في أمد لا يتعدى شهر واحد من تاريخ تنصيبها، وأن تبدأ الحكومة من نفسها أولا. وأول ما يجب البدء به هو تقليص عدد الوزارات وحذف ميزانية النفقات غير الضرورية والحد من إكراميات الوزراء والنظر في رواتب كل الموظفين السامين التابعين للوظيفة العمومية، واعتبار المرحلة، مرحلة انتقال ديمقراطي، تتطلب التضحية واحترام ميزانية الدولة والتعفف عن المال العام. عفا الله عن الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي ومتعه بالصحة والعافية، فقد ضرب المثل لمن لا يرعوي سنة 1998 في حكومة التناوب الأولى على عهد المرحوم الحسن الثاني، حين زهد في مليار سنتيم تعويضا عن الوظيفة الوزارية وأمر توا بإرجاع المبلغ الذي تم صرفه باسمه في شيك رسمي إلى خزينة الدولة. وإذ نعتبر هذا التصرف النبيل خارجا عن قدرة الآخرين نظرا لمستواه العالي من الشعور بالمسؤولية وأخلاقيات السياسي المثالي، فنحن لا نتمنى أن نعدم رجالا في الدولة مثل اليوسفي أو عبد الرحيم بوعبيد الذي كان يأتي إلى مكتب وزارته ممتطيا دراجة نارية، نتمنى أن يتصرف بنكيران على هذا المستوى، وأمام وضع جديد تعتبر فيه الحكومة القادمة مسؤولة ومراقبة وفق أحكام «دستور جديد»، كما لن نتوانى في طلب المزيد من هذه المواقف النبيلة الشجاعة المطلوبة كبند ضروري في السيرة الذاتية لكل من ينوي الاستوزار ويتولى مسؤولية في حكومة المرحلة الديمقراطية. تلك أخلاق وسلوكيات خارج نطاق الألوف وتبدو غريبة في مجتمعنا، لكنها موجودة وسنكرسها بشدة وسنتعود عليها، وستبدو لنا تلقائية لا غرابة فيها، لأن شروط المرحلة السياسية الراهنة باعتبارها مرحلة انتقالية، تدعو إليها، وتحتمها أكثر من أي وقت مضى. وأنتظر مع المنتظرين سماع كم وزير جديد تخلى عن امتيازاته المادية واكتفى بالضروري منها ولم يشترط سيارات مصلحة ذات مواصفات خاصة أو أشياء أخرى غير ملزمة تكلف ميزانية الدولة مصاريف مرهقة. لذلك يتعين على الحكومة الجديدة أولا،مراجعة الأنساق والأجهزة الإدارية التابعة لها،مراجعة جذرية وغربلة كل مكوناتها البيروقراطية والتي ترضع من ثدي الخزينة العامة ولا تعطي شيئا،وتعويضها بمصالح صغرى إذا كان وجودها ضروريا، نظرا لما تقوم به من خدمات لازمة ومفيدة،أو لما لها من دور في مساعدة المواطنين وتدبير الشأن العام،وذلك ضمن مقاربة منطقية وموضوعية للإصلاح،لا تضر بمصلحة الدولة ولا تنتقص من الحقوق الجوهرية لمواطنين يعيشون مواطنة حقيقية في دولة مدنية تختلف الحياة فيها عن ذي قبل. فينبغي القطع إذن مع ماضي وزارات المجاملة ومؤسسات الإرضاء والمصالح الإدارية المفصلة على مقاس مستحقيها.ينبغي الالتزام بمنطق تأهيل الإدارة المغربية من أجل تحقيق الإقلاع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبناء دولة المؤسسات.فكم من وزارة في الحكومات السابقة، لا مهام لها أو على الأكثر تقوم بدور ممثل رسمي للحكومة. وفي هذا الصدد كم مرة انتابني سؤال ما دور وزارة اسمها «وزارة الشؤون الاقتصادية» في حكومة عباس الفاسي؟وما هي مردوديتها في المنظومة الإدارية لجهاز الدولة؟وكيف نقيم إنتاجها من خلال المهام المسندة إليها؟ فقد أعلن وزيرها في غضون شهر يوليوز 2008 أي على مدى أربع سنوات،أن حكومته تتدارس مشروع إصلاحات تهدف إلى تقوية الطبقة الوسطى وحمايتها.وقال في معرض جوابه عن سؤال شفوي بمجلس النواب حول «دعم الطبقة الوسطى» ، إن حكومته تعمل تحقيقا لهذا الغرض،على»تحسين الدخل الفردي للمواطنين في القطاعين الخاص والعام،وتوسيع الحماية الاجتماعية».وكل تصريحات وزيرها المحترم، هو تأكيده على»مواصلة الدولة، دعم المواد الأساسية عن طريق صندوق المقاصة،بالرغم من الزيادة المحدودة في أثمان بعض أصناف المحروقات وتحصين القدرة الشرائية للفئات الوسطى تحديدا».وأكد الوزير مرارا على تقديم دعم مباشر للفئات المعوزة لحثها على الانخراط الأسر في برامج التعليم والصحة ،لا يقل عن 500 درهم شهريا لكل أسرة ؟.. فما الذي تحقق في حكومة الفاسي وما الذي لم يتحقق.. ؟ وبناء على ذلك، لا نريد من حكومة الدستور الجديد، أن تسقط الخلفية السياسية لأحزابها على البرنامج الحكومي،فعلى المسؤولين الجدد في هذه الحكومة، أن يتحلوا بيقين العمل من أجل دمقرطة الحياة السياسية في البلاد وتفيعل برامج التنمية، بعيدا عن التفكير في تسخير مواقعهم الحكومية لخدمة مستقبل الأحزاب؟لا نريد أن يتردد خطاب حكومة الفاسي في أروقة المؤسسات الحكومية وأمام الصحافة وبرامج التلفزيون فيما سيأتي من زمن سياسي جديد،حابل بالمفاجئات.فإذا كانت الحكومة القادمة ستشتغل بجدية لتخفيض الضريبة على الدخل مثلا، فإن هذا سيكون دورها بالأساس، وإن هذا العمل أو سواه لا يستدعي حملة دعاية مباشرة .فالعمل المنتج يكشف عن نفسه مع مرور الوقت ولا تفيده الداعية في شيء.فالحكومة الأخيرة، لم تنجز من البرامج سوى ما تم إنجازه على ورق الخطب السياسية ومشاريع القوانين التي لم ترى النور. وعود ما سبق قد تتحقق فيما سيأتي، وليس ذلك بمستحيل أو غير قابل للتحقيق، إن الإرادة المتوفرة لدى الدولة كفيلة بدعم كل المشاريع الواقعية القابلة للتحقيق، إذا أفرزت تجربة هذا الاستحقاق الحكومي حصيلة سياسية منتجة تستطيع أن تترجم القول إلى فعل.وأول ما سيبرهن عن تحكم التشكيلة الجديدة للحكومة في زمام الأمور وبروزها لأول مرة كحكومة ثقة تبني علاقة التصالح الحقيقي مع المواطنين، هو تسطيرها البرامج الواقعية القادرة على إنجازها،وعدم تقديم أرقام تحت الحساب، كمعدل النمو المحصور في 6% حيث لم توطئ عتبته من قبل ، ولم تقترب منه كثيرا أي حكومة سابقة كما لم تبتعد عنه قليلا، بل كان الرقم غير واقعي تماما، لكنه كان رهان مزايدة سياسية تتحدى به حكومة حكومة أخرى لتقتنص به دعم الجماهير. كان ذلك سياق عمل ونموذج تجربة في المنظومة السياسية المغربية، وقاسم مشترك بين الحكومة التكنوقراطية وحكومة الحزب، لذلك كان سوء التقدير السياسي،هو النتيجة الحتمية لما تؤول إليه وضعية أي حزب سياسي يجازف بالانخراط في شراكة سياسية غير مضمونة النتائج. ويمكن تحديد سوء التقدير السياسي في مباشرة مهام مسؤوليات حكومية خارج الإرادة الشعبية،حكم يكتسى طابع التوافق ويقبل بكل الشروط التي تناسبه والتي لا تناسبه ولو على حساب خيارات جماهيرية ناضل الحزب من أجلها طويلا.إن المسؤولين في الاتحاد الاشتراكي تقبلوا شروط النظام السياسي، وتولوا قيادة الحكومة ببرنامج سياسي جاهز لا ببرنامج الحزب.بالنسبة للمرحلة الراهنة يختلف الوضع كثيرا عما سبق،وتختلف حكومة العدالة والتنمية عن النسق الحكومي الذي ساد على مدى عقود، وأغلب الحكومات المتعاقبة كانت تفعل ذلك، تطبق سياسة الإملاء ولا تسأل النظام عما يفعل، بل هم يسألون؟ في المرحلة الراهنة تبدلت الموازين والمعايير وإن بقيت الشراكة السياسية بين الأطراف التي تشكل أضلاع هرم الدولة،فإن الحكم بالتشاور المبدئي وتقاسم الأدوار ينهي المبادرة الفردية في صياغة القرار ويوسع الهامش الديمقراطي بشكل يستجيب لشروط الدمقرطة وبناء الدولة المدنية.