برنامج "حوار" الذي استضاف الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، السيد محمد نبيل بن عبد الله، قدم نموذجا للمستوى الرفيع الذي يطلب في النقاش السياسي اليوم، إذ لأول مرة يترفع منشط البرنامج عن المستوى "الحلقي" الرديء الذي كان يفرضه على المشاهد المغربي بسلطة التسيير والتنشيط، ولأول مرة يسمح للمحاور- وللصحفيين أيضا- بالتعبير عن الأفكار والأسئلة والقناعات التي يتقاسمونها أو التي يتوقع أن يكون العديد من أبناء الشعب المغربي ينتظرون إجابات بشأنها. طبعا، كل هذا لم يوفر إلا الشروط الضرورية لنقاش سياسي رفيع لا شك أنه حظي بمستوى جد مرتفع من المشاهدة والتتبع، وإلا فإن ما أعطى لهذه الحلقة بعدها المتميز أشياء أخرى جدير أن نقف عندها ونعطيها قدرها في التحليل. فالأستاذ محمد نبيل بن عبد الله- وخلافا لعادته الدبلوماسية في التصريح عن مواقفه- كشف المستور، وعبر عن المواقف التي يفترض أن يعبر عنها كل فاعل سياسي وطني شريف يجعل سقف نضاله إحداث تحول ديمقراطي في البلاد، وإنجاز الإصلاحات الحقيقية التي تتطلع إليها الشرائح الواسعة من أبناء الشعب المغربي. مؤكد، أن هناك من سيقرأ مواقف السيد نبيل بن عبد الله من زاوية الكسب الانتخابي، وسيحاول أن يقيس هذه المواقف التي ربما تبدو للبعض "شعبوية" إلى المواقف السالفة التي كان يمشي فيها الأستاذ نبيل عبد الله على الحبل حتى لا يضر أي طرف، لكن، مهما تكن القراءات، وحتى ولو افترضنا هذا البعد في مواقف السيد نبيل بن عبد الله، فهو أمر مشروع، ما دام أن هذا البعد كان حاضرا دائما، ولم تكن قيادة التقدم والاشتراكية تعبر - من منطلق الحاجة إليه - عن هذه المواقف. وبعيدا عن هذه القراءات التي لا تقدم إضافة تذكر، فإن ما يهم في مواقف الأستاذ محمد نبيل بن عبد الله، هو ثلاثة قضايا رئيسة: - الأولى: وهي الصدق في تحليل المشهد السياسي: إذ لا شك أننا سمعنا في هذه الحلقة من الأستاذ نبيل بن عبد الله خطابا جديدا تبدو آثار ربيع الثورات بادية عليه، فلم يعد الحديث عن "جيل جديد للإصلاحات" مؤثرا، كما أننا لم نسمع شيئا عن مقولة "الوسط التاريخي" التي أبدعها ونحتها سلفه السيد إسماعيل العلوي، وإنما المستحضر في لغة نبيل عبد الله ضمن الأدبيات الإيديولوجية هو مفردات من قبيل "الوفاء للمبادئ" و"التشبث بالقيم" و"النضال الديمقراطي" و"الالتفاف حول الجماهير"و "الانحياز للطبقات الكادحة". ولقد كانت آثار هذا الخطاب، وهذه المفردات بادية على مستوى تحليل الوضعية السياسية للبلاد، وحقيقة موقف صناع القرار السياسي من إنجاز التحول الديمقراطي في المغرب. فقد تردد على لسانه بالتصريح والتلميح الحديث عن وجود مهندسين يقومون بصناعة الخريطة السياسية وفق أمزجتهم وشطينة وعزل من يريدون شيطنته وعزله، كما كان موقفه واضحا من المسلكية التي يتم بها صناعة هذه الخريطة، وذلك عندما أشار إلى أننا سنعيد إنتاج انتخابات 2007 في حالة إذا ما استمر التحكم في المشهد السياسي وفرض الفاسدين في الاستحقاقات الانتخابية. ما هو مضمر في هذا التشخيص السياسي، هو شعور حزب التقدم والاشتراكية، بوجود إرادة ما - يتم التعبير عنها بالمهندسين- ليس فقط بعزل حزب العدالة والتنمية، ولكن أيضا بعزل مكونات الكتلة الديمقراطية، ورهن مستقبل المغرب بتحالف الثمانية الذي يمثل الصيغة ألأكثر قتامة على مستقبل المغرب السياسي، ولعل هذا ما دفع بالأستاذ نبيل عبد الله، للحديث عن ما أسماه بالالتتقاء الموضوعي مع حزب العدالة والتنمية مع الاختلاف في المرجعية والقيم والنظرة إلى الحريات الفردية. - والثانية هو الوضوح في التموقع:إذ ظل الأستاذ نبيل بن عبد الله يعبر أكثر من مرة عن قاعدة تحالفاته الحزبية داخل اليسار والكتلة الديمقراطية، بل تجسد هذا الوضوح أكثر عندما اعتبر أن بين حزبه وبين تحالف الثمانية ما بين السماء والأرض، في حين لم يبد أي تحفظ على مستوى دراسة إمكانية انضمام حزب العدالة والتنمية للكتلة الديمقراطية، واكتفى بالقول بأن الكتلة لم تتوصل من هذا الحزب بطلب رسمي للانضمام، وهو ما يعني من الناحية السياسية عدم إقفال الباب أمام هذه الإمكانية وتركه مفتوحا على كل الاحتمالات لمواجهة المستجدات السياسية، ما دام أن هناك تلاق موضوعي بين مكونات الكتلة وحزب العدالة والتنمية على مستوى مواجهة استحقاقات التحول الديمقراطي ومواجهة الفساد السياسي والانتخابي. - والثالثة: هو الإنصاف في الحكم والتقدير السياسي للفرقاء السياسيين: وضمن هذه القضية عبر الأستاذ نبيل عبد الله عن موقف جد متقدم من حزب العدالة والتنمية، إذ اعترف بدوره في حماية الاستقرار السياسي في المغرب في اللحظة التي كان فيها العالم العربي يشهد تحولات عميقة في بنى الحكم ، فلم ينضم حزب العدالة والتنمية للحراك الشعبي، كما اشاد بدوره في إنجاح الورش الدستوري في البلاد، وانتقد بشدة الحملات التي تروم شيطنته وعزله، وفي الوقت ذاته عبر عن محل الاختلاف بينه وبين حزب العدالة والتنمية، وقصره في مجال المرجعية والقيم والحريات الفردية. وهو موقف ديمقراطي منصف يعري المناورات التي تحاول عزل هذا الحزب ودق طبول الحرب ضده، ويربك حسابات تحالف الثمانية الذي يراهن مهنسدوه على عزل العدالة والتنمية سياسيا وانتخابيا، ويفتح الطريق أمام عزلة هذا التحالف ما دامت مكونات الكتلة نفسها تعبر عن نفس الموقف من العدالة والتنمية. بكلمة، لقد قال الأستاذ نبيل بن عبد الله في برنامج "حوار" ما يقوله المغاربة، وأبان بكل وضوح على أن هناك جهات لا تريد الإصلاح في البلاد، وأن هذه الجهات هي التي تمكن لقوى الفساد، وتصنع الأعداء الوهميين للبلاد، وتحدث الإطارات التي من خلالها ستواجه هؤلاء "الأعداء"، لكنه في الوقت ذاته، عبر عن قدرة الأحزاب الوطنية عن أن تعبر عن استقلالية قرارها وعن رفضها لمنطق التحكم في المشهد الحزبي والسياسي. طبعا، لن تمر هذه المواقف هكذا، فلكل موقف سياسي كلفته السياسية، فمنطق السياسية السائد اليوم يعتمد مقولة معنا أو ضدنا، أو بعبارة مغربية صريحة، إما أن تكون "بعقلك" أو أن تحتاج إلى "التربية". لكن مهما تكن كلفة هذه المواقف، فإن الأحزاب السياسية الديمقراطية المناضلة تبني مجدها أو تستعيده بهذه الكلفة، بل هذه المواقف هي التي ستكسر هذا المنطق الفاسد الذي ظل يتحكم في المشهد السياسي لأكثر من نصف قرن. ما لا يفهمه "مهندسو الخرائط الانتخابية" و "صناع المشهد السياسي" هو وقوع هزيمة شددية لمنطق عزل القوى الحية في هذا الشعب، فلم تزد استراتيجيات العزل هذه القوى إلا تجدرا وقربا من الصف الوطني الديمقراطي، ولم تفد استراتيجيات توظيف الخلاف المرجعي والقيمي في تعميق الهوة بين المكونات،ذلك أن منطق الحفاظ على المصالح، يدفع إلى تقوية شوكة الفساد والإضرار باستقرار المغرب ومصالحه العليا، ويدفع الأحزاب الوطنية والديمقراطية والإسلامية إلى التقارب الموضوعي ولو اختلفت مرجعياتها وتمثلاتها لقضية القيم. فلقد ابانت الثورة أن أول قيمة يجتمع عليها ابناء الشعب مع اختلاف منطلقاته المرجعية وتلويناته الإيدلويوجية هو الحرية ومخقاومة الاستبداد، لكن يبدو أن مهندسي الخرائط الانتخابية لا يفقهون هذه الدروس، ويتجهون بالبلد نحو المجهول.