عندما أعلن أحمد داود أوغلو إستراتيجية تركيا التي لخصّها بعبارة «صفر مشاكل» مع الدول التي لها مشاكل مع أنقرة، كان إعلاناً عن دخول الدبلوماسية التركية مرحلة جديدة ستتسم بالخروج من المشاكل الإقليمية، والانتقال إلى تحسين علاقات تركيا بالدول المعنية، بعد تحقيق هدف الوصول إلى «صفر مشاكل». وقد طبّق داود أوغلو هذه الإستراتيجية من خلال ابتعاثه ممثلاً دبلوماسيا خاصاً قبل تسلمه حقيبة الخارجية، وبعد تسلمه إياها كانت تركيا قد أخذت تدخل مرحلة تحسين العلاقات وتطويرها، الأمر الذي ساعد على حدوث قفزات في تنميتها الاقتصادية والسياحية وحوّلها إلى قطب إقليمي فاعل ونشط. لا شك في أن الصدام الدبلوماسي بين تركيا والكيان الصهيوني عزز ذلك الدور كثيراً، فالكل يذكر حادثة دافوس ثم وقوفها القوي ضد العدوان على قطاع غزة 2008/2009، والوقوف الثابت ضد حصاره، وما تخلل ذلك من أزمة بسبب ما وجهته الخارجية الصهيونية من إهانة للسفير التركي، ثم ما ارتكبه الجيش الصهيوني من عدوان على سفينة مرمرة التركية التي قادت أسطول الحرية. وقد طلبت تركيا منها الاعتذار وتعويض أسر الشهداء ورفع الحصار عن قطاع غزة شروطاً لإعادة تطبيع العلاقات، وهو ما رفضته حكومة نتنياهو. وجاء تقرير بالمر حول العدوان الصهيوني على سفينة مرمرة ليصب الزيت على النار، فاتخذت تركيا موقفاً هبط بمستوى التمثيل الدبلوماسي وعلاقات التعاون العسكري، وهددت باتخاذ خطوات أخرى لاحقة ضد الكيان الصهيوني. غير أن الدبلوماسية التركية ومنذ بداية العام 2011 أخذت ترتبك في معالجتها لعدة قضايا، لتنتقل من إستراتيجية «صفر مشاكل» إلى ما يشبه نقيضها، حيث يُلحظ توتر علاقاتها بروسيا بعد إعلانها احتضان مشروع الرادار الأميركي المضاد للصواريخ، وهو ما اعتبرته روسيا عدائياً لها، كما اعتبرته إيران ضدها ولم ترَ فيه موقفاً تركياً باتجاه تحسين العلاقات والتعاون السابقين. أما على مستوى العلاقات التركية السورية فقد وصلت إلى حد قطع الاتصالات والتهديد بإنزال عقوبات والإعلان بأن تنسيقاً سيجري في موضوع العقوبات بين داود أوغلو ونظيرته الأميركية هيلاري كلينتون، غير أن هذا التنسيق يهزّ صورة تركيا شعبياً ويضرّ بها. فتركيا الآن تواجه مشاكل متفاقمة مع روسياوإيران وسوريا، الأمر الذي يفرض بأن يُسأل داود أوغلو: أين ذهَبْتَ بنظريتك «صفر مشاكل»؟ لم يُشَر هنا إلى تأزم العلاقة الدبلوماسية التركية مع الكيان الصهيوني، لأن المسؤول والمعتدي هنا هو الكيان الصهيوني، ولأن «صفر مشاكل» أو «علاقات حسنة» معه لا يستقيمان وعنصريته وعدوانيته أصلاً. عندما طرح داود أوغلو نظرية «صفر مشاكل» لتكون أساساً للدبلوماسية التركية، كانت متناقضة -موضوعياً- مع إستراتيجية عضوية تركيا في حلف الناتو، والتحالف مع الولاياتالمتحدة، لأن سياسة «صفر مشاكل» وتحسين العلاقات مع جميع الدول وإعطاء أولوية لتحويل تركيا إلى «نمر اقتصادي» وقطب إقليمي ودولي، يتناقض مع سياسات الناتو وواشنطن. فعلى سبيل المثال، لا تحتمل أميركا حليفاً وعضواً في الناتو لا يعادي من تعاديه، فكيف إذا ما راح يصادقه ويتعاون وإياه؟ كما لا تقبل لتركيا أن تصادم الكيان الصهيوني مهما يكن هذا التصادم محدوداً أو شكلياً أو دبلوماسيا، لأنها متماهية معه ومُسخرة من قِبَل النفوذ الصهيوني الأميركي لتكون في خدمته في الفترة نفسها التي بدأت نظرية «صفر مشاكل» تفعل فعلها الإيجابي بالنسبة إلى تركيا. إن النجاح الذي حققته الدبلوماسية التركية في السنوات الست الأخيرة في علاقاتها مع روسياوإيران وسوريا وحماس ولبنان والبرازيل وقطر، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بعضوية الناتو والتحالف مع أميركا، ما كان ليتحقق لولا ما أصاب الولاياتالمتحدة من ضعف وإخفاقات وأزمة مالية، مما جعلها تبتلع -دون أن ترضى وتسلم- ما مارسته تركيا من سياسات وحققته من تقدم خلال السنوات الست المذكورة. يجب أن يتذكر المتابع للسياسات الدولية والإقليمية أثناء الحرب الباردة كم كان دور تركيا محجّماً، وأن أميركا لم تكن لتسمح لها بهامش من الاستقلالية في ما يتعلق بالسياسات الإقليمية، أو في علاقتها بالكيان الصهيوني. ولهذا فإن الظروف التي سمحت لظاهرة العدالة والتنمية -ظاهرة أردوغان- أن تأخذ المدى الذي أخذته، يجب أن تُقرأ من خلال ما حدث من تغيّر في موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية. طبعاً هذا لا يقلل من أهمية الدور الذاتي، فالقراءة اليوم لأي دور ذاتي يجب أن تضع الأهمية الضرورية لما أصاب الولاياتالمتحدة من ضعف، وما اتسم به ميزان القوى العالمي والإقليمي من اختلال في غير مصلحة أميركا والكيان الصهيوني. على أن إغفال هذا المتغيّر وعدم إعطائه حجمه الفعلي ما زال يدفع الكثيرين إلى التهافت على طلب ود الإدارة الأميركية وعرض التعاون معها، ظناً منهم أن أميركا ما زالت أميركا الحرب الباردة، وهم بهذا يعودون بالسمعة السيئة على أنفسهم ويدخِلون سمّها في سياساتهم. بل إن السياسات الأميركية في هذه المرحلة أصبحت أسيرة النفوذ الصهيوني الأميركي الذي أصبح في قلب القرار الأميركي. فأميركا إيزنهاور حتى جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر غير أميركا الراهنة التي يقف كونغرسها 39 مرة ليصفق لنتنياهو, وغير أميركا التي لا يستطيع رئيسها أن يفرض على نتنياهو وقفاً جزئياً للاستيطان لتمرير حاجة أميركية قصوى طلبها الجيش الأميركي وليس أوباما وحده. المهم أن الدبلوماسية التركية أخذت تغرق في المشاكل، وفي بعضها تنزل عدة دركات تحت «صفر مشاكل»، وذلك حين تسوء علاقاتها بروسياوإيران، وتصل علاقاتها بسوريا إلى حد إنزال عقوبات بتنسيق مع الولاياتالمتحدة. وهذا كله متناقض مع دخولها في معركة دبلوماسية مع الكيان الصهيوني، ومعركة تتعلق بالغاز في قبرص، أو في حماية السفن التجارية من قِبَل أسطولها الحربي في عرض البحر المتوسط وهي متجهة إلى قطاع غزة (كما أعلن). أما من الجهة الأخرى فإن لتركيا أن تختلف ما شاءت مع سوريا، ولكن كيف تقبل لنفسها أن تدخل في لعبة العقوبات؟ وهذه مسألة تشكل خطأ كبيراً بالنسبة إلى دولة من العالم الثالث يُفترَض بها معارضة السياسات الإمبريالية -المخالفة للقانون الدولي- حين تستخدم العقوبات كما تفعل أميركا والاتحاد الأوروبي، وهو ما يمكن أن يُسمى بلطجة أو تشبيحاً دولياً. إن دول العالم الثالث كانت دائماً ضد سياسات العقوبات التي مارستها أميركا في العلاقات الدولية، فهي جزء من سياسة عدوانية إمبريالية كانت تمهد دائماً لتجويع شعب والعدوان العسكري عليه، وكانت توصف دائماً من قبل أحرار العالم بأنها عنوان للاستبداد الدولي وتسميم العلاقات الدولية. من هنا فإن رفض ممارسة سياسات الحصار والعقوبات من قبل الدول الكبرى -بما في ذلك لو صدرت عن «مجلس الأمن»- مسألة مبدئية تحت كل الظروف، ويجب ألا تدخل في العلاقات الدولية. كان المأمول من تركيا أردوغان-أوغلو أن تمثل دور الدولة العالمثالثية الحريصة على مبادئ القانون الدولي وميثاق هيئة الأممالمتحدة، فترفض سياسات العقوبات التي تمارسها الدول الكبرى ضد دول العالم الثالث وشعوبه. يبدو أن حزب العدالة والتنمية أصبح بحاجة إلى وقفة سريعة لمراجعة سياساته خلال الأشهر التسعة الماضية، فكفة الخسارة أصبحت راجحة على الكفة الأخرى في الميزان، الأمر الذي أخذ يشكل صدمة لكثيرين ممن علقوا على تركيا آمالاً عِراضاً.