هذا الكتاب هو في حقيقته تقرير استخباري، وإن كان اتخذ شكل كتاب تم نشره للعموم، بحيث صدر في سنة 1925 عن دار النشر "بوسارد" في باريس.مؤلفه لم ينشر إسمه، واكتفى بإسناد الكتاب إلى "إفريقي" (un africain)ومعلوم أن الدوائر الاستعمارية كانت تتعامل مع باحثين اجتماعيين وأنتروبولوجيين، ترسلهم ليعيشوا وسط الشعوب المراد استعمارها، ليقدموا لها تقارير عن تلك الشعوب تفيدها في التحكم فيها والسيطرة عليها، مؤلف هذا الكتاب التقرير، يؤكد في مقدمة كتابه أنه عاش في إفريقيا الشمالية، خصوصا في المغرب والجزائر عشر سنوات قبل أن يكتب كتابه. فضلت ترجمة العنوان (Manuel de politique musulmane) إلى "دليل سياسة المسلمين" عوض دليل "السياسة الإسلامية"؛ لأن الأمر هنا يتعلق بالتحكم في المسلمين، قبل التحكم في بلادهم، حتى يتسنى تجريدهم مما ظل على مدى قرون درعهم الواقي الذي استعصى على الغزو.الجاسوس الذي ألف الكتاب كان يعرف كما نصح قادة بلاده، بأن الرابطة الدينية هي أقوى لدى المسلمين من أن يمكن سلخهم عنها، ولكن في الإمكان تسريب قيم لا إسلامية على أنها من الإسلام على يد "مسلمين" يتم إعدادهم لهذه المهمة، خلال الفترة الاستعمارية وتسليم البلاد لهم عند الخروج منها. ومن ذلك التهليل الذي لا زال مستمرا لإسلام آخر بدون شرائع ولا شعائر، إسلام بدون نصوص كما يحلو للبعض أن يسميه، ولهذا طبلوا في بداية الاستعمار، ولا يزالون يطبلون ل"القاديانية"التي ادعى مؤسسها أنه يتلقى تعليماته من الله مباشرة، على أنها هي الإسلام المقابل ل"الإسلام المتطرف"، ولكنهم يتحاشون تسميتها باسمها؛ فهي عندهم "إسلام عصري وحداثي ومعتدل ومتسامح" هو وحده المقبول. ويبدو أنهم بعد أن فشلوا في مسعاهم عندما كانوا يحكموننا بالحديد والنار، قد نجحوا في ذلك بعد أن أصبحوا يحكموننا بالثقافة والإعلام والفن، الذي يدعمونه بالمال والدعاية. ذكر الدكتور المهدي المنجرة في مقدمة كتابه "تصفية الاستعمار الثقافي، تحدي القرن الواحد والعشرين"، قصة شيخ مغربي تقدم إلى مكتب القائم العام الفرنسي، وقال له:«الآن يمكنكم ياسيدي أن تغادروا بلادنا مع الاحتفاظ بكل ما جئتم من أجله، فقد أوجدتم لنا فرنسيين من بني جلدتنا، يستطيعون خدمة أهدافكم الاستعمارية بدون أن تظهروا أنتم في الواجهة». وأخيرا في المغرب، إذا كانت المنطقة الفرنسية قد ظلت هادئة، فإن الثورة ضد الإسبان والإعلان -وإن ظل إعلانا بالإسم فقط –عن جمهورية الريف أشرا في نفس الوقت على فشل أقلمة مستعجلة للأمازيغ الأفظاظ في قالب السياسة، وعلى إرادة فذة في التحرر والاستقلال من نير استعماري بقدر ما تم بطريقة رعناء، بقدر ما كان عنيفا جدا. هذه التحركات المتنوعة والمتزامنة تقريبا، هل يمكن اعتبارها نتيجة عابرة للاضطرابات التي بثتها الحرب في النفوس؟ ألا تُبرِزُ في الأخير إلا استيقاظةً قصيرة وصحوة للطاقة مثل تلك التي أبان عنها المسلمون في بعض الأحيان خلال تاريخهم ليعودوا بعد ذلك إلى خمولهم الذي تعودوا عليه وبأكثر مما كانوا قبل الاستيقاظ؟ أم أن الأمر يتعلق هذه المرة بصدمة مزدوجة تسببت فيها المحن التي عانوها، كما تسبب فيه النموذج الذي تقدمه أوروبا، وبالتالي نكون أمام نهضة حقيقية، شبيهة بتلك التي أخرجت في الغرب العصر الحديث من رحم القرون الوسطى؟ نهضة شاملة لا أحد يستطيع أن يتوقع ولا أن يحسب تطورها المستقبلي ولا تداعياتها اللامتناهية بالنسبة لمستقبل العالم؟ هناك رأي ظل لمدة طويلة كمسلمة ثابتة، يتجه إلى إظهار أن الإسلام هو قوة للجمود، معادٍية للحضارة الغربية، وتلفظ هذه الحضارة بشكل غريزي. ولكن وعلى عكس المظاهر، وعلى عكس بعض التحريفات التي تضلل البسطاء الغير عارفين بممارسات رجاله ولا بأموره، فإن الإسلام غير قابل للتبديل، وغير قادر في جوهره وأساسه نفسه أن يتطور تطورا عاديا ومفيدا. إنه عبارة عن كتلة موحدة غير قادرة أبدا على التماهي مع الأممالغربية في مجالها الحضاري. إن أفضل مصير يمكن أن يحدث للمسلمين هو أن يوضعوا سواء برضاهم أو بالقوة تحت وصاية قوات مسيطرة أجنبية يكون من شأن قيادتها الصارمة أن تمنحهم منافع النظام الذي هم عاجزون على إقامته بأنفسهم. لقد سبق أن أعلن "رينان" عن هذه الأطروحة، التي يبدو أن جميع رجال الميدان تقريبا، وكذلك رجال الفكر الذين سبق لهم أن عاشوا في بلاد الإسلام، يؤكدونها. منذ عشرين سنة، والاتفاق حاصل بشكل تام بين معمرين، وإداريين، وضباط، في الجزائر وفي تونس؛ وهم فرنسيون عاشوا حتى الهرم هناك في خدمة الجندية، على هذا. ولقد كان "اللورد كرومر" أيضا معبرا صادقا بشكل خاص عن وجهة النظر هذه عندما قال في كتابه "مصر الحديثة" الجزء الثاني،الصفحة 229: «لا يمكن إصلاح الإسلام، أعني أن إسلاما تم إصلاحه لم يعد إسلاما، إنه شيء آخر». ولتأكيد هذا المعطى فإن الأمثلة يبدو أنها تترى متدفقة. والتاريخ يتحدث عن الوضع الذي يدعو للشفقة لإفريقيا الشمالية طيلة فترة الفراغ الطويلة التي ظلوا فيها بدون دولة، ما بين حكمهم من طرف الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية، والسيطرة الفرنسية، عندما تُرِكَ السكان المحليون من أمازيغ وعرب لأنفسهم، فلم يفعلوا شيئا غير نهب البلاد واستنزافها وسط فوضى عارمة. والملاحظة الأساسية برهنت منذ مدة، كمثل ميزة تعيسة لدول الشرق احتقارهم للمخططات ذات المَدَيَات الطويلة والبعيدة النظر، وغياب مثل أعلى وقيم مدنية، والابتزاز الذي ظل مقبولا ومسموحا به لدرجة أنه أصبح مؤسسة قائمة، وحقبة الخمول الطويلة جدا التي تخللتها بعض هزات عنيفة لمدد قصيرة جدا وبدون كبير طائل. في أي حال من الضعف ومن والتفكك والتعفن وجدنا المغرب، الذي هو اليوم بعد أن أُذعن إلى طاعتنا وأُخضع إلى الانضباط لقواعدنا، يكاد يخرج بسرعة من جموده، والذي ربما سوف يتوجب علينا في الحلقة المقبلةأن نفرمل انطلاقته المقلقة بسرعة تحليقها وانفلاتها .