ثمة نقاش مثالي حول مشروع الدستور الجديد من حيث مدى التزامه بالمعايير الديموقراطية الدولية، وهو جدل مشروع ومطلوب لأهميته في التطور الديموقراطي لبلادنا، إلا أن خلاصات مثل هذا النقاش لا تمثل المحدد الأول والأخير في صياغة الموقف من الدستور، بل تمثل أحد عناصر تكوين الموقف اللازم، وما قد ينبثق عنها من وعي بمكتسبات وحدود الإطار الدستوري الجديد. . اليوم نحن إزاء نقطة انعطاف في المسار السياسي المغربي، تتمثل في القدرة على جعل لحظة الاستفتاء الدستوري لحظة تأطير الموقف الشعبي للدخول إلى مرحلة جديدة من الحياة السياسية الدستورية للمغرب تنطلق من المكتسبات المعتبرة للمشروع المطروح، وذلك للخروج من مرحلة الغموض والتوجس من دخول المغرب دوامة تجارب التغيير السياسي التي شهدتها دول أخرى، والانتقال عوضا عن ذلك إلى مرحلة وضوح مستقبلي تمكن بلادنا من كسب رهان الإصلاح مع صيانة مكتسبات الاستقرار والوحدة والهوية، أي أن الموقف من الدستور هو أولا موقف سياسي يعبر عن إرادة واضحة في بناء إطار دستوري يتيح إنجاز انتقال ديموقراطي حقيقي وليس مزيف كما حصل مع تجربة التسعينيات، بفعل نجاح القوى المناهضة للإصلاح في تعطيل ما جاء به دستور 1996 من مكتسبات محدودة. ولعل من سمات هذه الانعطافة أن يتجاوز المغرب عقدة الخوف من معارضة النص الدستوري المقترح، وأن يمتلك القدرة على التكيف والتعايش وعدم التوجس من وجود موقف مناهض، لسبب بسيط هو أن عهد المد الديموقراطي العربي يؤمن بالاختلاف وينهي منطق الإجماع المستحيل، مثل ما حصل في تجربة الثورة المصرية، عندما اختار شباب ائتلاف الثورة موقفا معارضا للتعديلات الدستورية التي جرت في 19 مارس وشنت حملة واسعة في ميدان التحرير ضده تحت عناوين كثيرة منها «رفض تعديلات الترقيع للدستور الآثم» وحققوا ما نسبته 22 في المائة في مقابل ما يناهز 77 في المائة للقوى المؤيدة، وهو ما يعني أن مخاض التحول الديموقراطي بطبيعته ينتج مواقف متباينة، يتحقق النجاح بالقدرة على تدبير التعايش بينها وإعادة الاعتبار للشعب في حسم الخلاف. من هنا فإن التدبير الفعال للنقاش العمومي حول المشروع الدستوري المطروح يصبح مسألة حيوية ومصيرية، تتجاوز التعاطي المدرسي أو الاحتفالي به إلى تأسيس وعي بمكتسبات المشروع وتحدياته المستقبلية، وما يقتضيه ذلك من تحليل مدى استجابة مضمون الوثيقة الدستورية المطروحة على الاستفتاء لعموم المذكرات السياسية والمدنية التي عرضت على اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، ودراسة الاستحقاقات المترتبة عنه، واستيعاب عناصر القوة والضعف القائمة، من أجل رسم خريطة انتقال ديموقراطي ناجح يقطع من سياسات التحكم والسلطوية. إن الدستور القادم يؤسس لعناصر تعاقد جديد مؤطر بكسب رهان الإصلاح السياسي الشامل، وهي عملية ستنطلق مع اعتماد هذا الدستور المقترح، والتعاطي الإيجابي مع مقتضياته.