الجواب المغربي: قبل 20 فبراير 2011 اتسمت الحالة المغربية في بداية عهد جلالة الملك محمد السادس بلحظة الأمل الكبرى التي غذتها قراراته التدشينية التاريخية، على مستوى حقوق الإنسان، ومواكبة التناوب التوافقي، والاهتمام بالفئات المحرومة، والتخلي عن بعض التقاليد العتيقة، والتبشير بمفهوم جديد للسلطة الإدارية يجعل الإدارة في خدمة المواطن وليس العكس، فضلا عن التأكيد على قيم ومبادئ الرقابة والمحاسبة وحكم القانون: فاكتسبت الملكية المغربية بيعة متجددة من نوع خاص تحت شعار عصري جذاب ''المجتمع الحداثي الديمقراطي''. -لكن خلال النصف الثاني من العشرية السابقة ولاسيما بعد أحداث الدارالبيضاء الإرهابية، طرأت مستجدات في الاتجاه المعاكس، ودخل المغرب السياسي لحظة الجمود، مترافقة مع سقوط الاستثناء من العنف والتهديد الإرهابيين، ومع بداية أمارات الاحتجاج الاجتماعي المسيس ولاسيما ذي النزعة الانفصالية في جنوب المغرب، وكشفت اللحظات الدورية السنوية لنشر التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات خلال الثلاث سنوات الأخيرة عن سؤال المحاسبة والمساءلة ومن ذا الذي يقف في وجه تحريكها؟ - إذن صار المغرب أمام تحدي السؤال التشكيكي الكبير: هل نحن فعلا سائرون نحو الانتقال الديمقراطي؟ أم أن الانتقال الديمقراطي لم يفتح أصلا حتى نقول إن بابه قد أغلق، بل كنا فقط إزاء تجربة انفتاح سياسي محدود على قول عبدالله ساعف؟ وقد استفحل الشك مع صعود نجم لاعب سياسي جديد في المغرب وفي ظرف قياسي اختار التضييق على التيار الإسلامي المندمج، وصار المشهد السياسي أقرب إلى ''التخربيق السياسي'' على قول اسماعيل العلوي. بعد 20 فبراير 2011 -إضافة إلى العوامل المشتركة مع الاحتجاجات العربية التي سبق أن أشرنا إلى خصائصها العامة، لاحظنا أن الاحتجاج المغربي اصطبغ بصبغتين ولمح إلى خيارين للمعالجة: الوجه السلمي المدني بالمركز والوجه العنفي التخريبي ببعض الأطراف، وبالمقابل موقف حضاري للسلطة في الحالة الأولى وموقف صارم وأمني في الحالة الثانية. - أمام هذه الصورة ذات الوجهين والملمحة إلى أحد خيارين للدولة، أصبح المغرب أمام مخاطر حقيقية تكلفه فقدان الصورة المتميزة التي أعطته وضع الشراكة المتقدمة مع أوروبا، ولا سيما أنه صار عاريا أمام الامتحان المعياري لتونس ومصر. فتونس كانت تشكل منافسا سياحيا واقتصاديا على عهد المستبد غير المستنير بن علي فكيف سيكون عليه الوضع التنافسي الاقتصادي والسياحي المغربي مع ''تونس ديمقراطية مائة بالمائة'' كما يقول الشعار التسويقي السياحي التونسي في الوقت الحاضر؟؟ -أصبح المغرب أمام تحدي الإجابة عن سؤال الإصلاح السياسي الدستوري المصاحب لإصلاح تنموي شامل يوفر الخدمات الأساسية ويحاصر الفساد ويوفر الكرامة، فكان يوم 20 فبراير المغربي ''يوم الكرامة''. -مؤشرات الجواب المغربي كانت إيجابية وترجح الخيار الأول المقابل للوجه السلمي للاحتجاج، على ما نقلت وكالات الأنباء عن مستشار جلالة الملك محمد معتصم الذي أكد الإرادة الملكية المتجهة نحو الإصلاح وأن المغرب سيوقف تراكم أسباب امتداد الحريق إلى بيته، من خلال قوله ''لايعني أن الحريق لم يصل إلى المغرب أنه لا ينبغي له التحرك''، كيف لا: ومصر ذات الموقع الاستراتيجي الحساس فرضت عليها الأحداث التغيير والدعم الغربي للتغيير؟ كيف لا: والغرب رفع شعار الشراكة من أجل الديمقراطية؟ كيف لا والولايات المتحدةالأمريكية تصرح رسميا فيما يشبه الضغط الناعم أن المغرب يحظى بمميزات خاصة تجعله لا يخلف موعده مع حتمية الإصلاح؟ كيف لا والمغرب أمام تحدي الدفع بنموذج جاذب للوحدة الترابية من خلال التعجيل بمشروع تنموي ديمقراطي شامل يضمن نقلة ديمقراطية في اتجاه عمودي وأفقي من شأنها نزع الذريعة الانفصالية؟ فكان خطاب 9 مارس التاريخي. بعد 9 مارس 2011 يشكل خطاب 9 مارس 2011 قطيعة لا رجعة فيها مع مغرب ما قبل 9 مارس ,2011 أجل الخطاب وحده لايكفي، ومضمون الخطاب لايعني أننا أصبحنا بين ليلة وضحاها نظاما ديمقراطيا برلمانيا، لكن الخطاب أكد أشياء أساسية وانطوى على خيارات أساسية وفتح الباب أمام وضع أساسي جديد. -أولا: الخطاب كان إراديا يعبر عن إرادة صادقة وحقيقية في تفعيل وتطوير وتكثيف متطلبات الإصلاح الشامل الذي حملته بداية عهد جلالة الملك محمد السادس وعلى رأس هذه المتطلبات دسترة وتقنين توصيات هيئة العدل والإنصاف. والخطاب كان شاملا، أي أنه انطلق من الإصلاح السياسي الدستوري ليلامس الإصلاح التنموي الشامل عبر دسترة الجهوية الموسعة ودسترة أجهزة الحكامة الرشيدة وضمان استقلال القضاء باعتباره قطب الرحى في أي تحول نحو دولة الحق والقانون، فضلا عن تعزيز صلاحيات البرلمان وتعزيز سلطة الوزير الأول، إذن لئن كنا لا ندعي الانتقال نحو الديمقراطية البرلمانية فإن بإمكاننا الادعاء أننا أمام إعادة نظر ملموسة ومكتوبة في بنية السلطة ، تبقى مصاحبتها كأي إجراء تشريعي بأدوات التنفيذ السليم والتفعيل الرشيد والتثمين الناجع المستند إلى دراسة معادلة الكلفة / الجودة. - هي إذن خطوة أساسية في طريق السير نحو الديمقراطية المهم أن السنوات السابقة شهدت بناء مداميك الضلع الحداثي للمشروع الآن دقت ساعة بناء مداميك الضلع الديمقراطي، حتى يمشي المشروع على رجليه الاثنين، وأول عبرة تستخلص هنا هي فصل المقال فيما بين التكنوقراطي والسياسي من انفصال واتصال، للسياسي شرف ومسؤولية اتخاذ القرار وللتكنوقراطي عبء ومسؤولية التفعيل والتثمين والتقييم وضمان الجودة واقتراح البديل الفني. -التحدي المطروح حاليا هو الإدماج السياسي الاجتماعي من خلال وسائط قادرة على كسب رهان إقناع الشباب بالسياسة في ظل وضع جديد موازينه ومعاييره وضوابطه السياسية والقانونية جديدة فكيف يكون وضع جماعة مثل العدل والإحسان في ظل تلاشي مفعول آليات كالحظر والحصار في قاموس مغرب ما بعد 9 مارس. أي هل نحن إزاء مراوحة أم مغادرة لآليات التحكم والإخضاع السابقة لتاريخ 9 مارس، لا مناص من حوار سياسي ومجتمعي شامل. - رهانات المغرب حاليا هي أجرأة وتفعيل المبادئ التوجيهية الواردة في الخطاب الملكي، وبما أنها مبادئ توجيهية ، فالعبرة في التشريع والتنفيذ ومصاحبة التنفيذ وتقييم النتائج وتشخيص الفوارق بين التوقعات والإنجازات وتفسيرها واقتراح بدائل التطوير والتصحيح ، وهذا ما يقودنا إلى مفهوم الحكامة الرشيدة. - لكي يكسب المغرب رهان الإصلاح الشامل والعميق فلا مناص من ترسيخ قيم ومبادئ ومعايير الحكامة الديمقراطية التنموية الشاملة وقوامها تشخيص المؤسسات الفاعلة في الحكامة الشاملة وتحديد حاجياتها ورصد مكامن ضعفها وتزويدها بوسائل تنمية القدرات حتى تكون في مستوى المهام الجسام التي تنتظرها من أجل صوغ نموذج مغربي جاذب للوحدة طارد لوهم الانفصال، ضامن للأمن والاستقرار، وفاتح لعهد جديد قوامه التعبئة الشاملة والرؤية الواعية مع ضمان حقوق الجميع، الجميع في الرأي والغنيمة مع الضرب على أيدي المتلاعبين والمفسدين والمغامرين، وفيما يلي الشروط والمتطلبات للنهوض بمؤسسات الحكامة الديمقراطية الرشيدة في المغرب من أجل مصاحبة حقيقية لمشروع الاصلاح الدستوري تضمن نجاحه وتمثله من جميع فئات الشعب وهدا هو الأهم. - 1السلطة التنفيذية: يجب أن تضرب السلطة التنفيذية ذات الصلاحيات الأوسع حاليا، القدوة والمثال، من خلال توفير إدارة شفافة ونظيفة ومن خلال التعاون مع البرلمان والقضاء، وأهم المؤسسات الفرعية التي ينبغي للحكومة المقبلة الانتباه إلى ضرورة تفعيلها وتنمية قدراتها واحترام مقرراتها واقتراحاتها، المؤسسات التالية: -هيئة مقاومة الرشوة: التي أصبحت دستورية، وقد كان تقريرها السنوي الأخير هاما وحافلا بالملاحظات والتوصيات فينبغي الانكباب على دراستها وتفعيل ومتابعة تنفيذ توصياتها. -ديوان المظالم: أصبح دستوريا هو أيضا: إن تقاريره هو أيضا مليئة بالعبر والدروس التي ينبغي استخلاصها، ولاسيما لجهة تفعيل مقترحاته ومقرراته ذات الصلة بعرقلة عمله. -جهاز تحديث القطاعات العامة: جهاز هام أيضا ينبغي لهذه الوزارة أن تعطي أولوية في برنامج الحكامة الإدارية بمؤسسات القطاع العام ولاسيما لجهة كشف ودراسة واقتراح الأساليب الكفيلة بمحاربة المحسوبية والمنسوبية التي تحدث عنها شباب 20 فبراير، فضلا عن محاصرة ظاهرة تضارب المصالح. -جهاز المفتشية العامة للمالية والمفتشيات والمراقبات الداخلية بالوزارات والمؤسسات العمومية ظل هذا الجهاز حبيس قانون متقادم، واختصاصات فعلية محدودة بفعل قلة الموارد البشرية، فضلا عن عدم شفافية أعماله واستغراق جل أنشطته في تدقيق المشاريع الدولية على حساب مراقبة الآمرين بالصرف والمحاسبين: أيضا حان وقت تفعيل جهاز المفتشيات الداخلية للوزارات ومد جسور التعاون بينها وبين المفتشية العامة للمالية، وربط جميع هذه الأجهزة إضافة إلى أجهزة التفتيش والتدقيق الداخلي بالمؤسسات العمومية، ربطها وظيفيا بالمجلس الأعلى للحسابات لضمان التناسق والتعاون والتكامل قدما نحو كسب رهان محاصرة ظواهر الغش والانحراف في الخدمة العمومية.. - 2البرلمان: بعد تعزيز سلطاته التشريعية، ينبغي وهذا هو الأهم تعزيز صلاحياته الرقابية، ليس فقط تشريعيا بل عملانيا من خلال تزويده بأدوات وخبرات وآليات المتابعة والمراقبة. سيكون على البرلمان المقبل أداء الوظائف الأساسية التالية وهي الوظيفة التمثيلية والوظيفية التشريعية والوظيفة الرقابية والوظيفة الإخبارية. ولن يكون ذلك ممكنا في غياب شروط حكامة برلمانية رشيدة من جهة وتعاون أوثق وأوسع مع المجلس الأعلى للحسابات، بعد تعزيز صلاحيات هذا الأخير وإخراجه من طوق التكتم الذي يعيش فيه، من جهة أخرى. علما أن المعايير الدولية للرقابة والمحاسبة تنص من أهم ما تنص عليه على تعزيز صلات وثيقة بين البرلمان والجهاز الأعلى للرقابة والمغرب لايمكن أن يظل استثناء على هذا المعيار، في ظل مقتضيات دستورية حالية تحد من هذا التعاون ولا سيما مع لجانه المتخصصة. -3المجلس الأعلى للحسابات هناك حاجة ماسة حاليا إلى شفافية العمل الرقابي للمجلس الأعلى للحسابات (ينظر موقعه الإلكتروني ويقارن بالمواقع الإلكترونية للأجهزة الرقابية الأجنبية)، وإلى تفعيل المساءلة التأديبية، ونشر أحكامه القضائية طبقا للقانون والمعايير الدولية للرقابة، وإلى تقييم السياسات العمومية التي لايقوم بها حاليا، وإلى تسليس وتكثيف العلاقة الوظيفية مع البرلمان، على أن يكون هذا الأخير مستعدا ومؤهلا لعلاقة تفاعلية منتجة وبناءة، ولاسيما لجهة مناقشة مشروع قانون التصفية، ومشروع القانون المالي السنوي، والتفاعل مع لجان البرلمان المتخصصة ولاسيما لجنة المالية والعدل والتشريع الدائمتين، ولجنة تقصي الحقائق الوقتية. -4القضاء إن القضاء العادل والنزيه والمسؤول هو قطب الرحى في منظومة الحكامة الديمقراطية الرشيدة، فهو يتصدى للأفعال اللامشروعة، ويواجه الظواهر المرضية في تدبير الشأن العام، كالاختلاس والرشوة والمحسوبية، على أن يكون شجاعا ومستقلا وفعالا وسريعا ومؤهلا من النواحي الفنية والمادية والبشرية. والمهم أن يكون قابلا للنقد والتقييم فيما يخص الإدارة القضائية خارج طرق الطعن القانونية المعتادة. ويقتضي تعزيز فعالية الحكامة الديمقراطية الرشيدة توثيق عرى العلاقة بين القضاء والمجلس الأعلى للحسابات، وتقنين هذه العلاقة في شكل تبادل الوثائق والمعلومات في الاتجاهين معا. - 5الإعلام إن الحكامة الديمقراطية الرشيدة القائمة على ركيزتي الشفافية والمساءلة لاتقوم وتنتعش إلا في ظل وفرة المعلومات وسهولة النفاذ إلى مصادر الخبر، وإتاحة الأخبار أمام الجميع دون تمييز وذلك من خلال: - رفض الرقابة على النشر - حرية عمل وسائل الإعلام وحرية حصولها على الأخبار، وحرية الحصول على المعلومات للجمهور المغربي. - تكافؤ الفرص بين وسائل الإعلام الخاصة والحكومية في الوصول إلى المعلومات وعدم التفريق في المعاملة الاقتصادية للحكومة بين وسائل الإعلام. - انفتاح وسائل الإعلام الحكومية مرئية كانت أو مكتوبة أو مسموعة على مختلف وجهات النظر واستقلاليتها التحريرية. - تسهيل عمل الإعلاميين الأجانب ودخولهم إلى البلاد ونقل المعلومات. - التخلص من القيود والتهديدات والضغوط الإغرائية التي تحد من عمل الإعلاميين وتؤثر على صدقية الأخبار. - توفير الحماية اللازمة للإعلاميين. -6المجتمع المدني: ينبغي تحرير المجتمع المدني المستقل وتدعيم قدراته وتوفير الموارد له من أجل تطوير نشاطاته وتقييم ومتابعة أعماله من أجل الرفع من مردوديتها وفعاليتها، والكف عن تشكيل جمعيات رسمية أو شبه رسمية رديفة للتضييق على الجمعيات المستقلة. إن الرهان من وراء مجتمع مدني حي وحيوي وحقيقي، هو المساهمة في خلق رأي عام يكون بمثابة رقيب قوي وفعال على تصرفات الحاكمين والقائمين على الإدارة الحكومية ولاسيما لجهة متابعة ومراقبة أوجه التصرف في المال العام وكشف مظاهر الفساد والانحراف، فضلا عن تقديم اقتراحات بناءة والتعامل معها بجدية وإيجابية. -7القطاع الخاص دور القطاع الخاص لا غنى عنه في إنجاح مشروع الحكامة الديمقراطية التنموية الرشيدة، من خلال توفير بيئة سليمة له وتعاون الحكومة النزيه مع مطالبه وحاجياته مع ضمان ضوابط لتخليق مؤسساته وشفافية معلوماته ووضعياته المالية وأمانتها، وكذا تحمل مسؤولية القطاع الخاص في الابتعاد عن التواطؤ مع الفاسدين والمرتشين في دوائر الحكومة والذي غالبا ما يظهر بمناسبة الصفقات العمومية، أو بمناسبة التنافس على الفوز بالاستثمارات الكبرى. - 8الأحزاب بعد أن ترفع الدولة يدها عن الأحزاب، وتتوارى الأيادي الخفية عن ممارسة لعبة شد الحبل داخل الأحزاب والتدخل في شؤونها الداخلية مهما بلغت من تعقيد، ومساعدتها بالموارد الكفيلة لدعم مسيرة التأهيل والتطوير وإعادة البناء، ينبغي فتح حرية تأسيس الأحزاب وترشيد عملها وعددها ومراقبة ماليتها ذات المصدر العمومي، على أن تستنبت الأحزاب قيم ومبادئ الحكامة الرشيدة داخل دواليبها من خلال ضمان آليات الديمقراطية الداخلية ودوران النخب، والاهتمام بالفئات الشابة، وتوعية المنتسبين بفضائل الشفافية وتكريس آليات المساءلة على الأداء السياسي والإداري والمالي قبل وأثناء وبعد اللحظة الإنتخابية. مساهمة في أشغال المائدة المستديرة بالمعهد الملكي للدراسات الإستراتيجية بالرباط