أظهرت التطورات العربية الأخيرة حدود منهجية الإدارة والتأقلم التي انتهجتها الأنظمة السلطوية العربية في تعاطيها مع إشكالية التنمية الشاملة للمجتمعات العربية، ومع أن الاحتجاجات العربية العامة أدت إلى هذا الحد أو ذاك إلى ''سقوط حائط برلين العربي'' نظرا لوجود عوامل مشتركة غذت هذا الاحتجاج فإن هناك خصوصيات لكل دولة على حدة، ولا سيما بالنسبة للأنظمة الملكية (باستثناء البحرين)، لكن المغرب تميز في إطار عمومية الاحتجاج وعوامله بخصوصيات فارقة لعل أهمها الإجماع حول مؤسسته الملكية مع مطالبتها بالإصلاح، والاستجابة السريعة، الإرادية والاستباقية التي فاقت كل التوقعات، ولكن الرهان الأكبر يبقى في التطبيق الرشيد والأجرأة الحكيمة من أجل كسب رهان النموذج الجاذب والموحد لتنمية شاملة متوازنة قوامها إصلاح سياسي عميق بالمعايير المغربية وأسلوبها حكامة رشيدة ترتكز إلى الشفافية والمساءلة وحكم القانون في نطاق عقد اجتماعي جديد بين العرش والشعب يكرس الطابع الرضائي والمضمون الحداثي الديمقراطي للبيعة. --- -السياق العام - تطرح التطورات العربية الأخيرة من جديد وبشكل دراماتيكي هذه المرة إشكالية العلاقة بين السلطة والتنمية، أي مأزق التدبير الاستبدادي للتنمية مهما تلفح هذا الاستبداد بشعارات مثل: الاستبداد العادل، أو الاستبداد المستنير أو الاستبداد الضامن للاستقرار الإقليمي والخادم لاستراتيجيات الدول الغربية في المنطقة العربية. - وتحيل هذه التطورات إلى تطورات سياسية كبرى مماثلة لعل أهمها، تحولات أوربا الشرقية، وتطورات ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي على مستوى جواره الإقليمي، أعني جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز ذات الغالبية المسلمة. ففي الحالة الأولى هناك تشابه مع التطورات العربية في الشكل وفي جزء من المضمون باعتبارها هبات شعبية عفوية من أجل مستقبل أفضل، لكنها تتمايز من حيث العلاقة الاستراتيجية إزاء الغرب وكذا من حيث عدم تجانس الأنظمة العربية مقارنة بأنظمة أوربا الشرقية؛ وفي حالة دومينو آسيا الوسطى والقوقاز فإن تلك الجمهوريات تسابقت نحو الاستقلال الوطني، لكن مع نفس المضمون السلطوي الذي تخلى عن الشيوعية كإيديولوجية للدولة واستبدلها بالقومية، لكن رياح التغيير الديمقراطي اصطدمت بعنف السلطة وبالتوظيف السياسي الخارجي للثروة (أذربيجان) أو بالتحالف مع روسيا التي لم تكن قد تخلصت من نزعتها الامبراطورية (طاجكستان ثم أوزباكستان لاحقا بعد فك تحالفها مع أمريكا إثر مطالبة الأخيرة للأولى بالتحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان). - من جانب آخر فإن الدراسات السياسية المقارنة سبق لها أن تناولت من منظور تجريبي مفيد إشكالية العلاقة الجدلية بين الإصلاح السياسي من جهة والإصلاح الاقتصادي الإجتماعي من جهة أخرى من حيث الإيقاع ومن حيث الإتجاه. فمن حيث الإيقاع أثبتت تلك الدراسات أن التزامن بين المسارين قد انطوى على قدر عال من عدم الاستقرار. أما إذا كان تعاقبيا فالأهم أن يكون الإصلاح السياسي تاليا على الإصلاح الاقتصادي وليس سابقا له، وفي هذا الصدد برز اتجاهان اتجاه تكاملي يرى أن البدء بالإصلاح الاقتصادي وإتباعه بالإصلاح السياسي خيار سليم فضلا عن أن تطبيق الإصلاح الاقتصادي باشتراطاته المعيارية يخلق ديناميكية تؤدي حتما إلى الإصلاح السياسي. أما الاتجاه التصادمي فيرى أن لا مناص من معاقبة النظام السياسي الراسب في امتحان التنمية من خلال فتح المجال السياسي لفئات رزاها أسلوب الحكم السلطوي فضلا عن أن المعايير الحداثية للإصلاح الاقتصادي لاتقوم وتنتعش إلا في ظل نظام ديمقراطي أو على الأقل سائر في الطريق نحو الديمقراطية والمثال الفاقع هنا هو أندونيسيا التي حققت طفرات اقتصادية مؤقتة لكن سرعان ما انهارت في ظل غياب آليتي الشفافية والمساءلة في أواخر عهد سوهارتو. - المهم خلصت الملاحظة الموضوعية انطلاقا من مراقبة التحولات السياسية الكبرى ذات النفس الديمقراطي أو من خلال الدراسات المقارنة المحكمة أن، الانتقالات الديمقراطية (في أمريكا اللاتينية وفي أوربا الشرقية وفي جنوب شرق آسيا) ترتكز إلى محددات أساسية وهي: - مستوى التقدم الاقتصادي (الثروة ضد الثورة في الخليج؟) - درجة تركيز الثروة (المطالبة بحسن التوزيع) - انسجام وقدرة الدولة - وجود أو غياب انقسامات على أساس الهوية - وجود أو عدم وجود تجربة سابقة من التعددية السياسية كما أنه لا يجب تغييب العامل الدولي الذي تعايش مع ديكتاتوريات أمريكا اللاتينية وتبنى ضمنيا أطروحة الدكتاتورية المستنيرة (Dictaplanda) ثم تحول الموقف الأمريكي تدريجيا وبلغ أوجه مع التخلي عن الدكتاتور فوجيموري بالرغم من أصوله اليابانية؛ لكن الموقف الغربي ضحى بالديمقراطية في آسيا الوسطى والقوقاز على مذبح المصالح النفطية أو الجيواستارتيجية من خلال مقايضة كلينتون مع يلتسين التي استفاد فيها هذا الأخير وخلفه بوتين من وضع الوصي والمراقب للتحولات السياسية الداخلية تحت تبرير ''الجوار القريب''َear abroad، وهو ما علق عليه المستشار الأمريكي المعروف برجيزنسكي بمقالته الشهيرة في الفورين أفيرز ''الشراكة السابقة لأوانها Preamature partnership. The وآمن الموقف الغربي بالموازاة مع ذلك بما يمكن أن نطلق عليه القدر السلطوي في العالم العربي، حتى جاء بوش وخدم مشروع السلطوية العربية من حيث أراد أن يحرجها. لكن ما الذي تغير حتى خرج المارد العربي فجأة من قمقمه في الآونة الأخيرة؟ - ملامح ودلالات التطورات العربية الأخيرة - قبل وقوع الذي وقع لوحظ أن التحولات المجتمعية الكبرى التي أفرزتها العولمة وثورة المعلومات جنبا إلى جنب مع ارتدادات الأزمات المالية والاقتصادية العالمية على العالم العربي أن التبريرات الذرائعية للسلطوية العربية قد أصابها نوع من التهلهل والخلخلة يتعلق الأمر بالشرعيات التقليدية: الثورية والتاريخية والدينية والأمنية ذات البعد الإقليمي المرتبط مع المصالح الجيوستراتيجية الغربية، بالإضافة إلى توالي الضربات التي مست ''الكرامة العربية'' على وقع العدوانية الإسرائيلية فظهرت ''قومية شعبية جديدة'' مختلفة عن القومية الديماغوجية السلطوية. - كان من نتائج ذلك أن بدأت تطفو على السطح علامات الإعياء على منهجية الإدارة والتكيف والتأقلم التي انتهجتها السلطوية العربية في التحايل والإلتفاف على المطلب الديموقراطي وذلك من خلال اهتراء آليات التحكم والإخضاع التي يمكن حصرها في العناوين التالية: -الانكشاف التدريجي لمنهجية احتواء المجتمع المدني من خلال المجتمع المدني شبه الرسمي الرديف. -حدود أسلوب الإدارة الأمنية المتفاوتة في عنفها مع الاحتجاج السياسي: تارة انفتاح سياسي محدود (فتح المجال لفوز انتخابي محدود للمعارضة كما في مصر) ثم فجأة الانقلاب عليه (من خلال سد الباب نهائيا أمام المنافسة كما بينه المثال المصري في الانتخابات الأخيرة التي كانت وبالا على النظام المصري). -انكشاف طريقة الإدارة السياسية للإصلاح الاقتصادي من خلال حجز فوائده وتوزيعها على الأنصار وحرمان الخصوم منها. - الضعف التدريجي لآليات السيطرة على المعلومات، وتعقب المدونين ''المشاغبين''. - حدود محاولات تنويع الارتباطات السياسية والاقتصادية الخارجية نحو قوى دولية أو إقليمية أقل اهتماما بالهاجس الديمقراطي (الصين والدول النفطية الخليجية). إذن ثمة عوامل مشتركة للاحتجاج العربي بدون استثناء سواء كان الشعب يريد إسقاط النظام أو إصلاح النظام، المهم دقت ساعة التغيير بفعل تراكم العوامل المشتركة التالية: - ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة - انغلاق المجال السياسي أو محدودية انفتاحه بحيث لا يمس جوهر ''السلطة السياسية'' - الفساد المستشري وضمور الشفافية والمساءلة وحكم القانون. - انهيار خيار الكل الأمني مع تزايد الاحتجاج الاجتماعي وانتقاله إلى مرتبة التسييس. - بداية تململ الموقف الغربي التقليدي إزاء الستاتيسكو السلطوي العربي. -الخصوصيات: جميع الدراسات المقارنة المحكمة التي تناولت السلطوية العربية خلصت إلى وجود خصوصيات انفردت بها الملكيتان المغربية والأردنية من خلال بعض مؤشرات الحرية والانفتاح، على رأسها إدماج التيار الإسلامي المعتدل، واللجوء إلى آليات الحوار والاحتواء السلمي لبعض مظاهر الاحتجاج السياسي، فضلا عن وجود مؤسسة ملكية تحظى بإجماع واسع وبإمكانها قيادة دفة الإصلاح السياسي مع الحفاظ على شروط الاستقرار، كضمانة أساسية للتنمية، ولكن المثال البحريني ينفرد بخصوصية أخرى وهو البعد الطائفي والموقع الجيوستراتيجي الحساس. - الخصائص العامة للهبات الشعبية العربية: - العفوية: فهي ليست وليدة مؤامرة لا إخوانية (مصر) ولا قاعدية (ليبيا) ولا كان طباخها واشنطن ومطبخها تل أبيب (على قول الرئيس اليمني). - بدون قائد: قوامها الشباب ووقودها الإعلام الاجتماعي تجاوزت القيادات والرموز سواء كانت حزبية أو فكرية، لكن لوحظ أنها حظيت بدعم ومساندة ومشاركة من القوى والأفراد المعروفين بمواقفهم الراديكالية أو الجريئة من الأنظمة العربية القائمة. - طابع سلمي مدني: بشكل لافت لوحظ أن الاحتجاجات لم تلجأ إلى العنف أو التخريب، بل كانت ''سلمية، سلمية''، فأحرجت المركب الأمني السلطوي، الذي فضحته ''موقعة الجمل'' المصرية، لكن مع بعض الاستثناءات التي كانت شاذة على القاعدة، كما في بعض أطراف المغرب أو في اليمن بفضل عوامل صراعات مسلحة كانت قائمة من قبل. المهم كسبت الاحتجاجات العقول والقلوب بطابعها السلمي المدني الحضاري وهو ما أدى إلى دفع الموقف الغربي نحو مزيد من الضغط من أجل كبح جماح العنف السلطوي. - تفاوت وتأرجح الموقف الغربي: بعد تلعثم وسكوت متواطئ خرج الموقف الغربي عن خطه التقليدي بفعل نجاح الثورة التونسية أولا، وإصرار ونضج المحتجين المصريين ثانيا، وقد لوحظ أن الضغط الغربي قد أتى أكله من خلال ترجيح خيار التغيير وإن كانت قوة هذا الضغط تراعي درجة الترابط الاقتصادي والمالي، بحيث كان وقعها ضعيفا من الناحية العملية في ليبيا لهذه الأسباب مقارنة مع الدول العربية ذات الارتباط الغربي الأكبر اقتصاديا وماليا، لكن عينها الأولى على مصالحها الجيواستراتيجية (الهجرة، الإرهاب، المخدرات، أمن إسرائيل، النفط)، وعينها الثانية على حلفائها أو مشاريع حلفائها الداخليين من القوى المدنية والسياسية وحتى العسكرية. - خلقت حالة خوف عامة لدى الأنظمة الحاكمة، وهو خوف مشروع إذ أن القدر السلطوي لم يعد قدرا أبديا، وأصبح التغيير ماثلا وحالا، وصار ضرورة وحتمية، فحتى ''الشعب التلاميذي'' لبعض المدارس رفع عقيرته: ''الشعب يريد إسقاط المدير'' !! باحث بالمركز المغربي للدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية