أموال الناس ليست كَلا مُباحا ولا يجوز أكلها بالباطل، أو استمرار طلبها فيما يستحق وما لا يستحق ليس هناك أحد لم يتعرّض في يوم من الأيام لظروف طارئة أو حادثة عابرة حلّت به ألجأته لطلب المساعدة من غيره لكي يزيل ما طرأ عليه وما حلّ به دون أن يُعرّض نفسه لذُل السؤال أو إهانة الكرامة أو الشعور بالمهانة، لذلك حفظ الإسلام للنّاس حياءهم، وحافظ على ماء وجوههم، وأعلى كرامتهم عندما فتح بابا للمعاملات بين النّاس بالمعروف، يربط الصلة بين الغني والفقير، ويؤكّد أواصر المحبّة بين القوي والضعيف، ويساعد على وجود الرفق في حالات العسرة والضيق وتوفر الرحمة بين العباد في تفريج كربهم وتيسير أمورهم. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ''مَن نفّس عن مسلم كُربَة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَن يسّر على مُعسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه'' رواه مسلم وأبو داود والترمذي. تختلف الطرق التي يتدبر بها المغاربة عجزهم المالي والكيفيات التي يوفرون بها حاجاتهم الأساسية والكمالية، أمام الارتفاع المتوالي للأسعار وثبات الأجور، وفي ظل هذا الوضع يلجأ هؤلاء إلى البنوك وشركات التمويل من أجل الحصول على قروض استهلاكية، وبلغ مجموع القروض الاستهلاكية السنة الماضية 40 مليار درهم، واقترض المغاربة 622 مليون درهم السنة الماضية من أجل شراء التجهيزات المنزلية واقترضوا 12 مليار درهم لشراء سيارات، مقابل 26 مليار درهم هي عبارة عن قروض شخصية. وحسب بحث أجراه بنك المغرب فإن 93 في المائة من المقترضين للاستهلاك يتكونون من الموظفين والمستخدمين والأجراء، والنسبة الباقية تتشكل من أصحاب المهن الحرة. هذا وإن 48 بالمائة من المقترضين يتقاضون 4 آلاف درهم. و40 بالمائة تقل مداخيلهم عن 3 آلاف درهم. هذه الأرقام والبيانات تكشف إقبال المغاربة على الاقتراض من المؤسسات البنكية رغم الفائدة المقترنة بها من أجل تدبير أزماتها المادية أو توفير بعض الأمور التي ترى أنها ضرورية وملحة. وأمام هذه الأرقام يطرح السؤال هل ما زال المغاربة يقترضون من بعضهم البعض؟ لا توجد دراسة بحثية تجيب عن السؤال، لكن نكتفي بتصريحات عدد من المغاربة الذين اختارت ''التجديد'' آراءهم بطريقة عشوائية: فريدة ربة بيت في الخامسة والثلاين من عمرها وأم لأربعة أبناء يدرسون جميعا، تقول إنها تحاول قدر الإمكان تدبير الأجرة التي يحصل عليها زوجها شهريا والتي لا تتجاوز 4 آلاف درهم، لكنها لا تخفي أن هذا المبلغ بالكاد يكفي المصاريف اليومية والحاجات الأساسية، وتضيف ''عندما أريد شراء تجهيزات منزلية قد تكلفني أزيد من المبلغ الذي يتقاضاه زوجي أو عند حدوث طاريء صحي أو غيره فإنني لا أجد حلا أمامي سوى الاقتراض، ولا ألجا في هذا الأمر إلا إلى عائلتي أو عائلة زوجي''، فريدة تقول إنها لا تقترض من الجيران والأصدقاء لأنها تخشى ردود الفعل ولأنها تعلم أن لا أحد اليوم أصبح قادرا على إقراض الآخرين. عبد الإله موظف عمومي، يؤكد كما يقول من تجربته، أن المغاربة لايقترضون من بعضهم البعض، وحتى من توفر لديه المال فإنه لا يقرض الآخرين خشية تماطلهم في السداد، أو أكلهم لماله، ويتابع ''لذلك يلجأ الناس لتدبير أمورهم المالية إلى طرق أخرى إما الادخار أو ما يعرف ب ''دارت'' أو الاقتراض من البنوك'' كل ذلك من أجل تجنب الوقوع في مشاكل. وفي نفس السياق يذهب رأي نادية وهي معلمة وتقول '' لقد كنت أقرض بعض المقربين من العائلة والأصدقاء، لكن التجربة دفعتني إلى التوقف عن هذا الأمر'' وتمضي تشرح ذلك بالقول '' لقد تهرب الكثيرون من الأداء عندما يأتي وقت السداد، وبعض من أقرضتهم لم تكن الحاجة الملحة هي التي تدفعهم لذلك بل فقط الجري خلف مواد مكملة وليست ضرورية، وعندما احتجت مرة إلى المال واتصلت بمن أقترضهم لاستعيد حقي، تهرب الجميع وبدوت مثل المتسولة رغم أن ما أطلبه حقي، لذلك قررت أن أحتفظ بمالي عندي ولا أقرض أحدا''. التهرب من الأداء أو عدم الانضباط للموعد المحدد للسداد هو من الأسباب الرئيسية التي تدفع كثيرا من المغاربة إلى عدم إقراض غيرهم مهما كان قدر المبلغ المطلوب، وإذا كان البعض قرر عدم أقراض الآخرين كيفما كانت حالتهم ماسة إلى المال، كما هو الشأن بالنسبة ل ''السيدة نادية'' فإن آخرين اختاروا أن لا يقرضوا إلا من يضمنون من خلال سيرته أنه أهل للمساعدة وأنه قادر على السداد في الوقت المتفق عليه مثلما هو الشأن بالنسبة لمحمد وهو تاجر يقول إنه طيلة حياته كان يقرض أصدقاءه وهم يقرضونه بدورهم حسب الحاجة، ويقول إنه مع الوقت ومع استمرار معاملته مع هؤلاء الأصدقاء أصبح لا يتأخر عليهم متى دعت الحاجة إلى ذلك. فضل الإقراض يتصوّر البعض أنّ الإقراض ليس فيه ثوابا، لأنّ المال يعود مثلما ذهب، فلا فضل فيه ولا ثواب عليه، ولكن الأمر على عكس ذلك، فإنّ فضله كبير وثوابه عظيم. عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ''ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرّتين إلاّ كان كصدقتها مرّة'' رواه ابن ماجه وابن حبان. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ''رأيت ليلة أُسْرِيَ بي على باب الجنّة مكتوبا: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر، فقلتُ: يا جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأنّ السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلاّ عن حاجة''. حسن الوفاء يجب على المسلم أن يعلَم أن أموال النّاس ليست كَلاً مُباحا يرتع فيه كيفما شاء وحيثما أراد، ولكنّها مصونة ومحفوظة ولا يجوز أكلها بالباطل، أو استمرار طلبها من أصحابها فيما يستحق وما لا يستحق. ويجب عليه أيضا أن يحافظ على إقامة المعروف بين النّاس، ولا يساعد على إشاعة القطيعة بين المسلمين، وزرع بذور الشقاق بين المؤمنين، ونزع القدر المتبقي من الثّقة بين النّاس، ويعجّل بأداء ما عليه من دَيْنٍ إذا حلّ أجل الوفاء، أو يسّر الله عليه بالرزق، ولا يكون شأنه شأن المسوفين والمماطلين، ولا يجوز للدائن اشتراط الزيادة في القرض، فإنّ ذلك يحرم اتفاقًا. وتندب كتابة الدَّيْن لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...) البقرة:.282 والأمر بالكتابة هنا المراد به التسجيل والإشهاد، وتكون الكتابة شاملة جميع الأوصاف المبيّنة له، المعرفة إيّاه. الصبر على المعسر إذا تعرّض المدين إلى ضيق وشدة، وحلّ عليه إعسار وكُربة، فيُطلَب الصبر عليه، والرفق به، وإنظاره إلى حين يأتي الفرج وتزول الضائقة والغمة، قال الله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسُرَة) البقرة:,082 وعن أبي قتادة رضي الله عنه أنّه طلب غريما له فتوارى منه ثم وجده، فقال: إنّي معسر، فقال: آللهِ؟ (الهمزة ممدودة على الاستفهام، والهاء مكسورة) قال: آللهِ، (الهمزة من غير مد، والهاء مكسورة)، قال: فإنّي سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ''مَن سَرّه أن يُنجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفّس عن معسر أو يضع عنه'' رواه مسلم. التجاوز عن المعسر هناك بعض النّاس يسارع إلى المعروف ويحرص عليه، فعندما يجدون كريما أبيا وقع في إعسار ليس له به طاقة، أو سقط في ضيق أو نزل به بلاء، وما أكثر البلاء في هذه الدنيا، فإن لم تكن هذه هي فرصة الأخيار من النّاس للوقوف بجوار إخوانهم، وبذل المعروف لهم وإشعارهم بأنّهم ليسوا وحدهم، ولكن لهم إخوان في الدِّين والعقيدة، يدركون إحساسهم ويعيشون همومهم، ويقفون بجوارهم في محنتهم، فمَن ذَا الّذي يفعل ذلك؟ مَتى تكون الشهامة والمروءة والإقدام؟ أكل الدَّيْن من أكبر الذنوب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ''مَن أخذ أموال النّاس يُريد أداءها أدّى الله عنه، ومَن أخذ يُريد إتلافها أتلفه الله'' رواه البخاري. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ''يُغفر للشّهيد كلّ ذنب إلاّ الدَّيْنَ'' رواه النسائي وأبو داود. .