جمهور الفقهاء ومنهم المالكية على القول بمنع دخول المرأة الحائض والنفساء المسجد، ومن الأدلة التي يسوقونها في ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن أم عطية أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مناسبة العيد:'' يخرج العواتق وذوات الخدور أو العواتق ذوات الخدور والحيض وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين ويعتزل الحيض المصلى، قالت حفصة: فقلت: الحيض فقالت: أليس تشهد عرفة وكذا وكذا'' قال بعض الفقهاء منع النبي صلى الله عليه وسلم الحائض من مصلى العيد ، وأمرها باعتزاله ، لأن له حكم المسجد ، فدل على منعها من دخول المسجد . ومن الأدلة التي يدلي بها بعضهم أيضا ما رواه أبو داود عن جسرة بنت دجاجة قالت سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعد فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب''والحديث صريح ونص في بابه لو سلم من جهة سنده، قال فيه الألباني في تمام المنة مدار الحديث على جسرة بنت دجاجة، اضطربت في روايته، والاضطراب مما يوهن الحديث، ولذلك ضعف جماعة هذا الحديث. وهذا مذهب بعض الصحابة، جاء في الموطأ عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: المرأة الحائض التي تهل بالحج أو العمرة إنها تهل بحجها أو عمرتها إذا أرادت ولكن لا تطوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة وهي تشهد المناسك كلها مع الناس غير أنها لا تطوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ولا تقرب المسجد حتى تطهر'' قال الباجي في المنتقى:'' وَقَوْلُهُ وَلَا تَقْرَبُ الْمَسْجِدَ حَتَّى تَطْهُرَ يُرِيدُ أَنَّ الْحَائِضَ لَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَلَا غَيْرَهُ وَلَا تَبِيتُ بِهِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهَا الطَّوَافُ حِينَئِذٍ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدهِمَا أَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَالْحَائِضُ لَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَالثَّانِي، أَنَّ الْحَيْضَ حَدَثٌ يَمْنَعُ الطَّهَارَةَ وَالطَّوَافَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالطَّهَارَةِ .'' والواقع أن الأدلة بخصوص الحائض صريحة في منعها من الصلاة والطواف وليست كذلك بخصوص دخول المساجد، إلا ما كان حديث أبي داود لولا ضعفه، وما كان من قول ابن عمر لمن يرى حجية عمل الصحابي، قال تعالى:'' يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ'' فهي صريحة في الصلاة، ظنية في المساجد حيث قال البعض بأن المقصود موضع الصلاة لأن عادة العبور لا تكون إلا في المكان، فيكون المعنى لا تقربوا موضع الصلاة ويكون عابر السبيل استثناء من النهي، وألحقوا الحائض بالجنب. وفي صحيح البخاري '' كانت عائشة قدمت مع النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهي حائض فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنسك المناسك كلها غير أنها لا تطوف ولا تصلي حتى تطهر'' وهو صريح في الطواف وليس كذلك بالنسبة للمسجد. وقد ذهب جماعة من أهل العلم قديما وحديثا إلى جواز دخول الحائض للمسجد وبهذا قال الإمام أحمد في رواية عنه، وهو قول المزني صاحب الإمام الشافعي، وبه قال الإمام داود وابن حزم الظاهريان . وقال الإمام أحمد في رواية أخرى إن للحائض دخول المسجد إن توضأت وأمنت تلويث المسجد . قال ابن حزم في المحلى: ''وَجَائِزٌ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ أَنْ يَتَزَوَّجَا وَأَنْ يَدْخُلاَ الْمَسْجِدَ وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ ، لأنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَهْيٌ ، عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : الْمُؤْمِنُ لاَ يَنْجسُ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ يَبِيتُونَ فِي الْمَسْجِدِ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ( وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ ، وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ فِيهِمْ مِنْ يَحْتَلِمُ ، فَمَا نُهُوا قَطُّ ، عَنْ ذَلِكَ. وبعد أن رد أدلة الجمهور استدل على رأيه بما أورده البخاري بسنده عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ وَلِيدَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ لِحَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ فَأَعْتَقُوهَا فَجَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ( فَأَسْلَمَتْ فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ (خيمة) فِي الْمَسْجِدِ أَوْ حِفْشٌ (البيت الصغير الضيق). قَالَ عَلِيٌّ : فَهَذِهِ امْرَأَةٌ سَاكِنَةٌ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ( وَالْمَعْهُودُ مِنْ النِّسَاءِ الْحَيْضُ فَمَا مَنَعَهَا عليه السلام مِنْ ذَلِكَ ، وَلاَ نَهَى عَنْهُ ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَنْهَ عليه السلام عَنْهُ فَمُبَاحٌ'' إلى آخر ما ذكره رحمه الله. ومن المعاصرين من ذهب هذا المذهب، الشيخ الألباني رحمه الله، قال في تمام المنة ص 119 . .2 والقول عندنا في هذه المسألة من الناحية الفقهية كالقول في مس القرآن من الجنب للبراءة الأصلية وعدم وجود ما ينهض على التحريم، وبه قال الإمام أحمد وغيره ب ] ومنهم الشيخ يوسف القرضاوي:قال حفظه الله في ''فقه الطهارة'' بعد أن أورد الاختلاف الوارد فيه وأدلة المجيزين لدخول الحائض المسجد:''وأنا أميل إلى هذا اتباعا للأدلة، وجريا على منهجنا في التيسير والتخفيف، وخصوصا على الحائض، فإنها أولى بالتخفيف من الجنب، لأن الجنابة يجلبها الإنسان باختياره، ويمكنه وقفها باختياره، أي بالغسل، بخلاف الحيض، فقد كتبه الله على بنات آدم، فلا تملك المرأة أن تمنعه، ولا أن تدفعه قبل أوانه، فهي أولى بالعذر من الجنب. وبعض النساء يحتجن إلى المسجد لحضور درس أو محاضرة أو نحو ذلك، فلا تمنع منه.'' وأقول بقولهما وقول من سبقهما من المجيزين للمرأة الحائض دخول المسجد عند الحاجة كالتعليم والتعلم، وأنا أستحضر هذه الصحوة المباركة في نساء بلدنا وهن يقبلن بحماس على برامج محو الأمية في المساجد، حيث يقتضي الحال منهن المواظبة على تلقي الدروس فضلا عن المدرسات الملزمات بأداء مهامهن بغض النظر عن أحوالهن، مع الاحتياط لبيوت الله من أي شكل من أشكال التلويث، وللمرء أن يستحضر مقدار الحرج الكامن في الأخذ برأي الجمهور، ودين الله يسر، والله وأعلم وأحكم.