تماماً كما حمل فقراء فنزويلا هوغو تشافيز إلى الرئاسة ثم أعادوه إلى قصره حين سجنه سارقو ثروات البلاد، وكما حمل الأتراك رجب طيب أردوغان من السجن إلى رئاسة الوزراء، فقد حمل فقراء إيران محمود أحمدي نجاد إلى سدة الرئاسة في مفاجأة من العيار الثقيل لم يتوقعها أحد، لا داخل إيران ولا خارجها. لم يكن نجاد من المطروحين في بورصة المنافسة في الجولة الأولى، فقد وضعته استطلاعات الرأي في المرتبة الخامسة بين المرشحين السبعة بنسبة 7,7% من الأصوات، لكنه كسر التوقعات وصعد إلى الجولة الثانية إلى جانب رفسنجاني بحصوله على حوالي 20%، وهنا كسر التوقعات وحقق المفاجأة الأكبر، ففي حين غدا رفسنجاني رئيساً لإيران في عرف المراقبين، لا سيما وأن منافسه هو نجاد وليس كروبي أو مصطفى معين، فقد وقعت المعجزة وتفوق الخامس في التصنيف على الأول. لعل الملاحظة الأهم التي لا بد أن تستوقف المراقب هنا هي عبثية استطلاعات الرأي في الدول العربية والإسلامية، خلافاً للعالم الغربي الذي تعوّد الحرية لسنوات طويلة وصار بوسعه التعبير عن الرأي الذي يتبناه، وليس الرأي الذي يعجب السائل أو المستمع، أو الرأي الذي يجنب صاحبه المتاعب. في تفسير ما جرى يمكن القول إن التوجهات السياسية (إصلاحي أم محافظ) قد تراجعت لحساب النزاهة والتجربة النظيفة في العمل العام، إلى جانب بعد أقل أهمية، أعني المواقف الخارجية في سياق الرد على التطرف الأمريكي. فمثلما قدم رجب طيب أردوغان نموذجاً مميزاً في النزاهة ونظافة اليد وروعة العطاء من خلال بلدية استنبول، فقد قدم نجاد نموذجاً مماثلاً أثناء تجربته كمحافظ للعاصمة طهران. وقد تحقق ذلك بعد أن لم تعد مسألة الإصلاح التي طرحت كنقيض للمحافظة مقنعة للغالبية الساحقة من الناس، ليس فقط تبعاً للقناعة بأن نجاد لن ينقلب على التحولات التي صاغتها مرحلة خاتمي، بل أيضاً لأن من يعنيهم الترخص في مسائل الحجاب وممارسة الرقص هم القلة، فيما تنشغل الأغلبية بهواجس العيش الكريم، وفي حين حاول رفسنجاني استمالة الفقراء في اللحظات الأخيرة بوعود منحهم مساعدات مجزية بدت غير مقنعة لضخامة أرقامها، فإن تجربته السابقة وانتصاره لطبقة البازار والأغنياء لم تكن لتطمئن الطبقات الفقيرة وتدفعهم إلى تجريبه مرة أخرى. على أن ذلك كله لا ينبغي أن يلفت الانتباه عن دلالة النتيجة فيما يتعلق بقوة وحضور التيار المحافظ، ذلك الذي تمكن تبعاً لقدرته على الحشد والتجييش من الحصول على غالبية مقاعد البرلمان في الجولة الأخيرة، فيما كان الآخرون في حالة من الإحباط بسبب تجربة خاتمي الإصلاحية، وهكذا أحكم المحافظون سيطرتهم على كامل مفاصل السلطة، الأمر الذي يعني امتحاناً كاملاً لهم أمام الجماهير سيحاسبون عليه في حال الفشل. الآن يبدو أن على نجاد أن يكون عند حسن ظن الجماهير به، فهنا ثمة وضع اقتصادي صعب للغالبية من الناس، مقابل وضع مريح للبلد توفره طفرة أسعار النفط، ومن الضروري أن يلمس الإنسان الإيراني تلك الطفرة في حياته بشكل من الأشكال، في حين لا يتوقع للرجل المحافظ أن يتجاهل ما جرى من إصلاحات في عهد خاتمي، ويبقى التحدي الخارجي مع الاستهداف الأمريكي الذي ينبغي أن يواجهه نجاد، لكنه لن يكون وحيداً، فالنظام كله قد غدا من ذات اللون. من ناحية الموقف العربي والإسلامي سننتظر سياسة مختلفة من إيران، مع أن الملف الخارجي لم يكن بيد خاتمي في واقع الحال، فما يجري في العراق وفلسطين ومشروع الشرق الأوسط الكبير يستدعي وقفة من المحافظين باتجاه طمأنة العرب والمسلمين إلى سياسة إيرانية تتعالى على الأبعاد المذهبية لصالح الوحدة الإسلامية في مواجهة الهجوم الأمريكي. وما من شك أن الملف العراقي هو الامتحان، فمن دون ترشيدها لخطاب وممارسة حلفائها الشيعة في العراق، فإن الحشد المذهبي سيتصاعد في أوساط الأمة، فيما لن يصب ذلك إلا في صالح الأمريكان والصهاينة، مع أن قدرتها على ضبط سلوك أولئك القوم بعد تحولاتهم الجديدة يبقى موضع شك في كل الأحوال. ثمة بعد آخر لا بد أن يلفت انتباه المراقب، أعني ذلك المتعلق بالموقف الأمريكي من الديمقراطية الإيرانية، ففي حين أثبتت الأحداث أن ثمة حيوية انتخابية وتعددية حقيقية في ذلك البلد ضمن إطار الدستور، فإن إصرار واشنطن على تجاهل هذا الحراك إنما يؤكد أن المسألة الديمقراطية هي آخر ما يفكر فيه المحافظون الجدد، وأن المسألة برمتها لا تعدو أن تكون مسألة مواقف سياسية لا أكثر ولا أقل. وفي حين يجري الاحتجاج بالقيود التي يفرضها الدستور الإيراني ووجود المرشد على رأس السلطات، فإن ديمقراطية غربية لا يمكن أن تخلو من مثل تلك القيود، فيما تتميز الديمقراطية الإيرانية بتحللها من سطوة المال والمافيات والتجمعات ذات الأهداف الخارجية، كما هو الحال في الولاياتالمتحدة. ولنتخيل لو كان أنجاد الطالع من أوساط الطبقة الفقيرة في الولاياتالمتحدة، هل يمكنه أن يحلم بالرئاسة في يوم من الأيام قبل أن يراكم عشرات، بل مئات الملايين ويعقد الصفقات مع اللوبيات المعروفة؟! ياسر الزعاترة