لا يبدو للداخل أول مرة إلى مدينة مليلية أية فروق بينها وبين جارتها الناظور، من حيث الأجواء التي تخيم عليها في رمضان مثل الهدوء وقلة الحركة ما بين الظهر والعصر وما بعدهما... ظننا أن أزمة الحدود هي التي غيرت جو الحركية والنشاط بالمدينة، غير أن مرد ذلك حسب أحد سكان مليلية المسلمين إلى أن النصارى يحترمون هذا الشهر.. حتى التدخين يتحاشونه أمامنا. فيما يعزو آخرون ذلك إلى كون النسبة الكبيرة للمسلمين بالمدينة البالغ سكانها أزيد من 57 ألف نسمة، هي من تصنع الحركية الدائبة باعتبار النصارى قلة قليلة تتكون من الجنود وعائلاتهم فقط. دخلنا المدينة في تمام الساعة الواحدة زوالا.. في محيط الحدود حركية طفيفة تؤثثها الفئة الداخلة والخارجة من المدينة وأخرى غير طبيعية بفعل الأحداث المتسارعة بمركز الحدود بسبب اعتداءات الإسبان، عشرات القنوات التلفزية تصور وتستجوب الناس في الحدود من جهة مليلية وداخلها إجراءات أمنية مشددة بالنقطة الحدودية. المسلمون في قلب إيقاع السلم بالمدينة قد يظن الواحد منا بأن المدينة التي ترزح تحت الاحتلال تعيش وضعا أشبه بالمدن الأوربية من حيث التضييق على ممارسة الشعائر الدينية، لكن زائرها ينبهر بواقع يؤكد بأنها أفضل بكثير من أوربا، فالآذان يملآ الآفاق، والتراويح بمكبرات الصوت هنا نمارس شعائرنا التعبدية بكل حرية يقول مسؤول بالجمعية الإسلامية بدر التي تأسست سنة .1991 الجمعيات الإسلامية الأربعة بالمدينة اجتمعت في إطار واحد اسمه اللجنة الإسلامية بمليلية، فهي المخاطب لدى السلطة ومعها يكون التنسيق والحوار حول مختلف حاجيات المسلمين، ولم يسجل أن رفض من قبل السلطات المليلية تقدمت بها اللجنة من أجل تنظيم نشاط معين، بل والأكثر من ذلك يقول عبد الرحيم عضو باللجنة حتى النصارى يشاركوننا أنشطتنا، ونقدم لهم مطويات تعريفية وكتيبات من إنتاج اللجنة التي تشتغل بشكل تشاركي بين مختلف الجمعيات المنضوية تحتها، لنا علاقة وطيدة وطيبة مع المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية بالناظور، والسلطات الإسبانية أيضا، فهي تسهل القيام بواجبنا الديني بشكل كبير من خلال توفير فضاءات لصلاة التروايح وتنظيم موائد الإفطار.لم تمنع السلطات الإسبانية بعد التنسيق معها- أي مبادرة تروم توفير فضاء للصلاة، بل وفرت أماكن رسمية في ملك الدولة، فمن خلال طوافنا بأرجاء المدينة وقفنا على أماكن تابعة للدولة خصصتها السلطات كأماكن لصلاة التراويح طيلة شهر رمضان، ففي منطقة كابريذيسا خصص ملعب لكرة القدم المصغرة، وفي مانتيليتي ساحة تابعة لوزارة الدفاع و4 مدارس عمومية في مناطق ريال وتيسوريو وخوان كارو وبوذرومو. عزا أحد سكان مليلية وهو إطار سياسي وحقوقي بأن سر سرعة الاستجابة من قبل رئيس بلدية مليلية خوسي خوان إمبروذا وهو من الحزب الشعبي يكن العداء للمغاربة والمسلمين عامة إلى السعي وراء كسب تعاطف المسلمين الذين يشكون قوة انتخابية مهمة يحسب لها حسابها. فيما عزت مصادر أخرى بأن ذلك راجع إلى حكمة اللجنة الإسلامية في التعامل مع السلطات وأحقية مطالبهم وشرعيتها كمسلمين مغاربة قاطنين بمليلية. الأمازيغية.. الرابط اللغوي بالمغرب زرنا مقر الجمعية الإسلامية بدر، وهو مقر مجهز بعدد من الكتب الإسلامية وقاعة للمحاضرات يسع لأريد من 150 فردا، متعددة الوظائف، تتضمن مكانا خاصا لتخزين المواد الغذائية والملابس ومختلف الإعانات التي يتبرع بها المحسنون، وجدنا عبد الرحيم المسؤول المالي للجمعية وهو على أهبة مغادرة القاعة، لكنه عدل عن الخروج ورحب بنا وتحدث إلينا حديث الواثق بمنجزات الجمعية والبشاشة لا تفارق محياه أعددنا برنامجا متكاملا على مدار الشهر.. هناك محاضرات دينية يؤديها وعاظ ومرشدون تابعون للمندوبية الإسلامية بالناظور.. ونحن نركز على الذين يتحدثون بالأمازيغية أو الإسبانية باعتبار السكان يفهمون الإسبانية أكثر من أية لغة أخرى، بالإضافة إلى الأمازيغية. و ننظم أيضا ندوات فكرية.. إضافة إلى مسابقات في الفقة ودروس تكوينية في فقه الصيام وأخرى في تعليم اللغة العربية، هذه المحاضرات معظمها تنظم بقاعات عمومية، ورغم ذلك يؤكد عبد الرحيم لا تكفي لاستيعاب العدد الهائل من الشباب والنساء المقبلين بشغف على مثل هذه الأنشطة، رغم أن للنساء لقاءات خاصة بهن تقام بمقر جمعية بدر، فإن نسبة 70 بالمائة منهن يحضرن الأنشطة المقامة في المدينة. موائد الرحمةّ تستقطب لاجئين وأطفال لفظهم مركز القاصرين رغم التأكيد بأن موائد الرحمة تقام بمختلف أماكن الصلاة بمليلة، غير أن فضولنا دفعنا إلى البقاء في المدينة إلى ما بعد صلاة التراويح للوقوف عن كثب على أجواء التروايح. إلى أطراف المدينة في منطقة عالية متاخمة لجماعة فرخانة تسمى سيدي ورياش واقعة تحت النفوذ الترابي لمليلة، يتوافد أناس من مختلف الأجناس على مسجد الرحمة، بجانبها زاوية سيدي ورياش وقريب منها مقبرة خاصة بالمسلمين، تحيطها ساحة كبيرة تقام فيها صلاة التراويح وموائد الإفطار يشرف عليها رجل يحظى باحترام الجميع يدعى الحاج ميمون. الوافدون أجانب من مختلف الدول جاءوا من مركز اللاجئين التابع لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية الإسبانية، وشباب مشردون لفظهم مركز القاصرين بمليلية بعد بلوغهم سن 18 سنة سألناهم إن كانوا من مركز اللاجئين، قال بعضهم بلهجة وجدية نحن من الجمعية الخيرية هناك يشير من جهة الحدود مع فرخانة- حينما نبلغ سن 18 سنة لا يسمح لنا بالبقاء هنا، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء حسب أقوالهم، ولا ملجأ لنا غير الله.. نحن هنا إلى أن نجد حلا لوضعيتنا، 10 دقائق تفصلنا عن أذان المغرب.. القامون على إعداد موائد الإفطار منهمكون في العمل و أفراد يشكلون حلقات داخل المسجد قيل إنهم باكستانيون وهنود، قال الحاج ميمون هم مسلمون .. فيهم الباكستانيون وأفارقة وجزائريون وفلسطينيون ودول أخرى حلقات داخل المسجد وكلام لا تفرق به بين الهندي والباكستاني .. طغيان أصوات لهجتهم بالمسجد يخيل للمرء بأنه في إحدى القرى الهندية أو الباكستانية. هذا في الوقت الذي يجلس البعض خ وهم هنود- متفرقون منهم من يرفع يديه بالدعاء، ومنهم من يتلو القرآن بترتيل وبصوت جميل، ومنهم من هو غارق في التفكير، ربما في المصير المجهول، أو في القدر الذي أتى به من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. سألنا عن سبب مجيئهم إلى المسجد بدل المركز، فقال أحد القائمين من الذين يقدمون الخدمات للصائمين بأنهم يحبون أجواء رمضان .. يأتون يصلون معنا التراويح لأن المركز قريب منا ..على بعد بضع المئات من الأمتار من هنا. وسط هذه الأجواء طفل قال إن عمره 14 سنة يحوم ويتجول داخل المسجد تارة، ويقف ببابها تارة أخرى يوزع التمر على كل داخل أو جالس لم ينتبه إليه أثناء دخوله، يقوم بحركات مسلية توحي بارتياحه بمهمته، يتبادل الكلمات مع الهنود بالإسبانية وكأن علاقة قوية تربطه بهم. أمطار ورعد وبرق تمنع المصلين من أداء التراويح بعد صلاة المغرب، جلس المفطرون حول موائد تضمنت التمر والحريرة والحليب والبيض وطبق الدجاج، موائد موزعة بساحة المسجد، محاذية لقاعة أخرى متوسطة مخصصة لرواد الزاوية يدعون الفقراء من أجل تناول وجبة الإفطار، قبل أن يغادروا إلى منازلهم محملين بأكياس فيها خبر وحليب... يناولها لهم الحاج ميمون المشرف على التوزيع من مخزن كبير مليء بالسلع قال إنها من مساهمات المحسنين. وبعيد المغرب نزلت أمطار قوية مصحوبة، منعت المصلين من أداء التراويح داخل الساحة لكنها لم تمنع العدد الغفير من الرجال والنساء من الدخول إلى المسجد وأداء الصلاة. أجوار ربانية بامتياز بمسجد الرحمة شأنها شأن باقي المساجد حسب تصريحات سكان المدينة، وبعيدها حركية ونشاط يملآن مليلية بأضوائها الساطعة في كل مكان. لتعود الأجواء بعد حوالي نصف ساعة إلى سكونها الذي يشبه سكون الزوال.