ثمة تحول جزئي لكنه مهم في مسار النقاش الدائر حول العربية والدارجة، فقد بدأت تبرز معالم فرز ضمن التوجه المتبني لخطاب الدارجة بين توجه وازن تتسع شريحته يدافع عن الدارجة لكن ضمن تصور وظيفي وتكاملي مع اللغة العربية، يعبر من خلاله عن دعوته إلى التقريب بينهما، وذلك في مقابل توجه ثان انحسر في بضعة أصوات إعلامية غير مسنودة علميا وأكاديميا، إذ يضعها مقابلا مضادا للغة العربية التي لا يتردد في القول بأنها لغة قريش إمعانا منه في تمييع النقاش وتحريفه عن الإطار العلمي له. يمكن هنا العودة إلى كل من الحوار الصحفي المنشور في العدد الأخير من أسبوعية لافي إيكونوميك مع رئيس مؤسسة زاكورة للتعليم نور الدين عيوش أو إلى افتتاحية يومية ليكنوميست ليوم الجمعية لعبد المنعم الدلمي، والتي أعيد نشرها في عدد الصباح ليوم السبت، ففي هذا الأخيرة كان الموقف صريحا بأن أي تغيير فجائي سيكون حتما خطوة خاطئة، إذ سيتم تفقير أجيال عديدة من المغاربة فكريا. صحيح أننا نستعمل العربية الدارجة بشكل شبه دائم، لكن كلما حاولنا التعبير عن فكرة معقدة إلا وعدنا بشكل عفوي إما إلى العربية الفصحى أو إلى الفرنسية، وهو ما يعني أن النقاش الدائر عندما يتجاوز الحسابات الإيديولوجية ويخضع للمعطيات العلمية يتجه أكثر فأكثر نحو إنتاج مواقف موضوعية قادرة على إنقاذ بلادنا من الدخول في متاهة صراع لغوي وهمي ومفتعل بين العربية والدارجة، على الرغم من اختلاف وظائفهما وانبثاق الثانية عن الأولى وما يقتضيه ذلك من ضرورة تأهيل الدارجة وتقريبها إلى الفصحى. المطلوب اليوم هو تعميق النقاش ومواصلته بشكل هادئ وعلمي، وفصل الرهانات الإيديولوجية التي ترى في ذلك وجها من أوجه الصراع ضد الحركة الإسلامية أو اللغة العربية وعزل المغرب عن محيطه العربي والإسلامي، وعن الرهانات العلمية التي تعمل على مناقشة المشكل اللغوي في المغرب وموقعه ضمن الأزمة العامة لنظام التعليم والقيم ببلادنا، وهو المشكل الذي يتخد تمظهرات عدة، أولاها حالة تمزق بين لغات وطنية من جهة ولغة فرنسية أجنبية تكتسح فضاءات النخبة وصنع القرار ببلادنا، وتمثل المحدد للرقي الاجتماعي والاقتصادي ضدا على الدستور ورغما عن انحسارها كلغة علم ومعرفة في العالم، وثانيها ضعف مستمر في التمكن من اللغة العربية بالرغم من التنصيص الدستوري عليها، وتخبط في تدريس اللغة الأمازيغية بعد سبع سنوات من انطلاق تدريسها، وعجز بين عن امتلاك اللغات الأجنبية القادرة على ربط المغرب بالتقدم العلمي وجني مكاسب الانفتاح الاقتصادي وعلى رأسها اللغة الإنجليزية. ومما لا شك فيه أن دعاة الموقف الإيديولوجي سينحسرون كلما تقدم النقاش العلمي واتجه إلى مواجهة التحديات اللغوية الحقيقية لبلادنا، والتي تقضي باعتماد سياسة لغوية وطنية تعزز هويتنا الوطنية الإسلامية العربية والأمازيغية، وتعالج أزمة الازدواجية الفرنسية مع اللغات الوطنية، وفي الوقت نفسه تؤهل بلادنا للانفتاح وامتلاك المعارف والعلوم، أما الحلول الوهمية فليست سوى تأيل للمشكل وأداة لاستفحاله.