فارقنا منذ حوالي سنتين رجل وطني كبير هو الأستاذ الأديب محمد الحبيب الفرقاني الذي توفي بمدينة المحمدية ليلة الأربعاء 20 غشت .2008 وهو رجل ستبقى مآثره محفورة في ذاكرة الوطن. هذا الأمازيغي الشهم الذي خاض في حياته معارك متواصلة ضد التضييق على الحريات والحقوق، وضد الفساد بمختلف أنواعه وفي مقدمته فساد تدبير الشأن العام والفساد الانتخابي، ظل أيضا مناضلا لتكون الحياة السياسية نظيفة وذات مصداقية، لا يتلاعب فيها بالمبادئ ولا تكون مرتعا للوصولية والأنانية والارتزاق. سيرة الرجل غنية بالمواقف المبدئية والصلبة وبالعطاءات المتنوعة. ولا أسجل هنا إلا لقطات مما عشته معه شهادة على سمو فكره ونبل سيرته. عرفته أولا لأن بين عائلتي من جهة والدتي أطال الله عمرها وزوجته الأولى أطال الله عمرها قرابة، جعلتني أسمع عنه في أسرتي وأنا بعد صغير. سمعت عن نضاله وعن ثباته وعن اعتقالاته. ثم لما أنشأنا في ثمانينيات القرن الماضي جمعية الجماعة الإسلامية، طالت حملة اعتقالات العديد من قياداتها من دجنبر 1981 إلى أبريل ,1982 وكنت من بين المعتقلين أولا في مركز الأمن بالمعاريف بالدار البيضاء، ثم في المعتقل السري بدرب مولاي الشريف. وهناك سمعت بالأستاذ الفرقاني حيث كان أحد الحراس يحكي لنا مكوثه فيه لفترة طويلة بعد اعتقاله سنة ,1969 وفي ظروف أصعب بكثير مما كنا فيه. وكان الحارس يحاول بذلك أن يخفف عنا ما كنا نعانيه من وطأة الاعتقال، إذ كنا طيلة الوقت وخصوصا في الأسابيع الأولى معصوبي العينين مقيدي اليدين ممنوعين من الكلام. وبعد الخروج من أزمة الاعتقالات والمتابعات الأمنية، وحتى نربط الجسور مع الفاعلين السياسيين في محيطنا، بادرت بزيارة الأستاذ الفرقاني في بيته، فرحب وفرح. فهو يعرف والدي الفقيه امحمد العثماني وعمي الشاعر الأديب المفكر محمد العثماني رحمهما الله معرفة جيدة. فكثرت زياراتي له، وناقشنا وضعية بلادنا وضرورة التعاون لخدمتها وأنا في تلك الفترة طالب في كلية الطب بمدينة لدار البيضاء. وقد أسرني بتواضعه وحسن استماعه ورفقه وسعة أفقه. لم أجد لديه التعصب لفكرته الخاصة أو لحزبه، بل كان منفتحا محترما للآراء المخالفة، لا يضجر منها ولا يعادي صاحبها. وفي أواخر سنة 1989 اقترحت عليه إجراء حوار مع مجلة الفرقان التي أشرف عليها آنذاك، فقبل دون تردد. فصدر الحوار في العدد العشرين من المجلة (عدد يناير فبراير 1990). وكان ذلك الحوار من الحوارات التي أعتز بإجرائها في مسيرتي الصحفية. وقد أكد فيه الأستاذ على أولوية النضال في سبيل التقدم وإشاعة الحريات من منطلق الإسلام. وفيه يقول: من حقي، بل من واجبي أن يكون من اهتماماتي الأولى هذا الواقع المتردي والمزري والمتناقض للمسلمين، بل أعتقد جازما أني لن أستكمل ديني ولن أكون متدينا حقا، بل لن أقوم بالظاهرة أو الشعيرة المميزة للإسلام، وهي الارتباط العضوي بجماعة المسلمين والالتحام النضالي بمصالحهم وقضاياهم الجماعية والمصيرية المشتركة (...) إلا إذا اهتممت بهموم المسلمين ومصالحهم اهتماما كاملا. ويقول أيضا: على طول التاريخ لم يكن الإسلام فقط المحرك والمؤثر والمؤطر لحركة الوعي التحرري وتصاعد المد الثوري وامتداده في تاريخ المسلمين، بل ظل أكثر من ذلك منبع القوة في الروح النضالية لدى المسلمين، ومصدر الدفع والاستقطاب، وكان عل طول التاريخ المركز الأساسي في صنع وقيادة البناء الحضاري والثقافي والعمراني الذي صنعه وقاده المسلمون على امتداد العالم لمدى ثمانية قرون أو تزيد. وقد تأثرت كثيرا بقبول الأستاذ الفرقاني إجراء هذا الحوار لعدة أسباب منها: أنه حوار لواحد من القيادات السياسية المعروفة، عضو في المكتب السياسي لحزب سياسي من أكبر الأحزاب الوطنية في الحياة السياسية مع صحفي هاو، وشاب في بداية مشواره المهني. أنه حوار لأحد قيادات تيار سياسي قوي مع شاب من تيار جديد لا يزال يبحث عن موقعه الاجتماعي والسياسي. وكان ذلك واحدا من أوائل الحوارات بين التيارين اليساري والإسلامي بعد مرحلة طويلة من التوجس والتوتر، وأحيانا الصراع. وقد قبل رحمة الله عليه في نفس السياق ودون تردد كتابة تقديم لكتيبي المعنون في فقه الحوار، وهو الكتيب الذي نشرته في طبعته الأولى سنة .1995 وقد وضع لذلك التقديم عنوان: الحوار أداة كونية للتخاطب.. والتفاهم.. والالتقاء. وفي آخره يؤكد على أن التحاور الصادق يبدأ وينتهي بتأكيد الإرادة المشتركة للعمل المخلص على: حفظ الدين من الجهالة والغوغائية والخرافة والتحريف والاستغلال والدنس، وصيانة الفكر من الجمود والجموح والتحجر ومن الغطرسة والتسيب والاغترار، والمساهمة الحية والفاعلة في تقرير وتوضيح مصير مجتمع مسلم مؤمن، نام متحرر، يعصمه الدين الحنيف، يقوده الفكر النير، يحتضن الحياة والناس، كل الناس، وكل الحياة، بفكر واع، بقلب واثق، بصدر مفتوح (ص 12 13). هذه الخلاصة تعكس جزءا أساسيا من فكر الأستاذ، فكر يضرب بجذوره في تربة الوطن وينطلق من مبادئ الدين ويستفيد من عطاءات الفكر البشري. وبقي تواصلي مع الأستاذ الفرقاني مستمرا، إلى أن بادر هو ومجموعة من الوطنيين الغيورين إلى اقتراح تأسيس جمعية تعنى بالدفاع عن قضايا الهوية. فدعيت لأسهم في مختلف مراحل التأسيس. وصيغت ورقة تضم الفكرة الأساس للجمعية ثم صيغ قانونها الأساسي، ووضعت لائحة المقترحين أعضاء للجمع العام التأسيسي من مختلف التوجهات الفكرية والأحزاب السياسية المغربية. واختير لها اسم: المنظمة الوطنية للدفاع عن الهوية مودة. وتكلفت شخصيا بطباعة الدعوات للمعنيين. وقد فعلت ذلك. لكن الجميع فوجئ بوفاة الصحفي الاتحادي محمد باهي في يونيو .1996 فتوقف لذلك السبب أو لكيد من بعض الأطراف المشروع وغرق كل طرف في همومه. وبقي الأستاذ الحبيب يذكر ذلك بحسرة ويتمنى بعثه من جديد. ولما احتدم النقاش حول مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية التي أعدتها آنذاك كتابة الدولة في الأسرة والمرأة والطفولة، وفي إطار برنامج مقاومتها تقرر إنشاء الهيئة الوطنية لحماية الأسرة المغربية التي أعلن عنها في 7 نونبر من سنة ,2000 اتصلت بالأستاذ الفرقاني ليكون من مؤسسيها. فوجدته أكثر حماسا واستعدادا، في وضوح فكري سياسي لما تقتضيه المرحلة. وهو آنذاك عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي. فحضر التأسيس ببيت الدكتور عبد الكريم الخطيب رفقة الأستاذ المناضل الفقيه محمد البصري وعدد من القيادات السياسية والفكرية. ومنذ الإعلان عن تأسيس الهيئة انطلقت حملة لتشويهها على صفحات بعض الجرائد التي خرجت بعناوين مثل الجبهة الرجعية تصطف ضد حقوق المرأة، والاصطفاف اليميني الرجعي، وأشار إليه بعضهم، وإلى الأستاذ الفقيه البصري رحمه الله، بالاتهام المباشر. وقال عنهما أحدهم: لقد ظهروا على حقيقتهم. لكن أستاذنا لم يتزعزع عن مواقفه. وكنت باستمرار أسأله إن كان يشعر بالحرج، وإن كان يريد أن يهذب من مواقفه المعلنة أخذا للحملة بعين الاعتبار، فكان يرفض ذلك في إباء. فقد كان رحمه الله يتمسك بالمبادئ التي يؤمن بها وإن تعرض بسببها للهجومات، وهو ما يليق برجل صبر على الاعتقال والسجن والتعذيب في سبيل ما يؤمن به. وهكذا بادر الأستاذ مشاركا في العديد من المهرجانات والندوات عبر المغرب لشرح رأيه في موضوع الخطة. كما أدلى بالتصريحات وأجرى الحوارات الصريحة، لا تأخذه في التعبير عن رأيه لومة لائم. وأذكر أننا شاركتا معا في العديد منها، أحدها بمنطقة الدشيرة بإقليم انزكان في مهرجان خطابي حافل. وكنت آنذاك نائبا برلمانيا عن دائرة الدشيرة الجهادية. فذكرت الجمهور في كلمتي بأن الأستاذ الفرقاني كان نائبا برلمانيا للمنطقة قبل ذلك بحوالي ستة عشر سنة. وكان آخر مطاف العمل من أجل مقاومة الخطة المهرجان الوطني الذي نظمته الهيئة الوطنية لحماية الأسرة يوم 11 مارس سنة 2000 عشية المسيرة الوطنية الشعبية الحاشدة التي نظمت بالدار البيضاء يوم 12 مارس. وقد عرف المهرجان تدخلات الكثير من الفاعلين والأساتذة، تشرح أهداف الهيئة، وكان من بينهم الأستاذ محمد الحبيب الفرقاني الذي أكد على خطورة الظروف المحيطة بمجتمعنا والتي تتهدد كياننا من مختلف الجوانب عن طريق الغزو الإعلامي والثقافي والفكري، ودعا إلى التعبئة الشاملة للدفاع عن أسرنا وأبنائنا. وعلى أن ذلك لن يكون إلا برجوعنا إلى ديننا الحنيف وأسسه الشرعية التي أحاط بها الأسرة. لقد عرفت في الأستاذ محمد الحبيب الفرقاني خصالا رائعة تجعله حقا من رجالات المغرب الأفذاذ، منها: غيرته الوطنية، فقد كان لا يقر له قرار في خدمة قضايا الوطن، ولا تثنيه عن ذلك متاعب ولا أشغال. كيف لا وقد كان من المناضلين الأوائل في صفوف الحركة الوطنية بمراكش، وتحمل النفي والإقامة الجبرية والاعتقال. وبعد الاستقلال لم يهدأ للأستاذ بال وبقي مناضلا صلبا في سبيل المبادئ التي يؤمن بها. وحتى لما كبر في السن، وشعر ببعض الوهن، عمل جاهدا على مسابقة الشباب. نضاله المتواصل في سبيل الديمقراطية والحريات العامة وبناء دولة الحق والقانون وصيانة حقوق الإنسان. ومن المعروف عنه تنديده المستمر بتزوير الإرادة الشعبية وفبركة الانتخابات، والنضال في سبيل بناء مجتمع خال من الاستغلال والقهر والتهميش والإقصاء. وقد تحمل في سبيل ذلك السجن والنفي والتعذيب. نضاله من أجل الدفاع عن الإسلام وصيانة الهوية الوطنية. كيف لا وهو الذي تابع دراسته بمدرسة ابن يوسف بمراكش، ودرس على عدد من شيوخها، وكتب حول قضايا الإسلام، ودعا إلى تخليص التدين من الجمود والتخلف، وناقش ظاهرة التصوف والصحوة الإسلامية المعاصرة. كما كانت له خواطر وأفكار من وحي رمضان، وعن المقاومة الرمضانية، ثم حول موسم الحج. وقد نشر أغلب ذلك في الصحف الوطنية في ستينات وسبعينات القرن الماضي. ولما أصدر كتابه +الثورة الخامسة، صفحات من تاريخ المقاومة وجيش التحرير؛ بعث لي بنسخة منه مع إهداء في عبارات غاية في الرقة. وقد سجل في مقدمته الصراع الواقع بعد الاستقلال بين نخب تريد بناء المغرب على أسس هويته الإسلامية، وأخرى تريد الانسلاخ عن هذه الهوية والمضي في طريق التغريب. ولقد كانت مواقف الأستاذ العملية التي تحدثنا عنها في الجزء الأول من هذه المقالة مؤكدة لعمق هذا التوجه لديه. جرأته في المجاهرة برأيه، مهما رفضه الآخرون، ولو كانوا من أقرب رفاقه إليه. وقد هوجم بسبب تمسكه بحرية رأيه وثباته عليه كما رأينا في قضية خطة إدماج المرأة، دون أن يثنيه ذلك عن الثبات عليه. ونفس الإصرار هو الذي أدى به إلى مغادرة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لما ظن أن الاختلاف مع رفاق الأمس لا يسمح بغير ذلك. هكذا عرفت الأستاذ محمد الحبيب الفرقاني مبدئيا، متواضعا، متجردا، لا يعرف التعصب. فرحمة الله عليه وعسى أن يوفيه الذين عايشوه وتتلمذوا عليه في مدرسة الوطنية والمبدئية حقه.