يذكر الأستاذ محمد الساسي أني أرسلت له رسالة مفتوحة ظل يحتفظ بها في الذاكرة، وأنا أعيد تذكيره ومن يعنيه الأمر بها، وإن كان يؤسفني أنه قرأها ولم يجب عنها وكنت قلت فيها: قرأت ما كتبه الأستاذ محمد الساسي ونشرته جريدة المساء ردا على بعض الفتاوى المنشورة في جريدة التجديد ضمن عمود قال الفقيه. وأثارني ما فهمه من كلامي بقوله: إن المجيب يقر مكان السائلة وينكر عليها حتى حق الإفصاح عن مشاعرها وعن كون التعدد سيسبب لها تعاسة كبيرة، ليخلص بعد ذلك إلى خلاصة جعلتها الجريدة بالبنط الغليظ وهي قوله: وهذا هو منطق الفكر الشمولي الذي لا يؤمن بحق الفرد في حرية الاختيار والشعور، وقبل أن يتابع الأستاذ محمد الساسي مقاله كما بشرتنا الجريدة؛ أود أن أعبر له عن سعادتي وسروري بوجود قارئ مثله يتابع مثل هذه الفتاوى، وأحييه أنه يورد النص كاملا، فيمنحه فرصة القراءة مرة أخرى في موقع آخر، ولكني أدعوه إلى قراءته كاملا كما أورده كاملا!! فالذي انتقده في الفتوى لو تدبرها كاملة لوجد الجواب عنه في ثناياها من الوضوح والصراحة التي لا تخفى على أمثاله: فمصادرة رأي السائلة الذي عاب علي الأستاذ، هو الذي لم أفعله ولا أؤمن به ولم أقله، فهي سألت طالبة النصح، وأنا دعوتها إلى أن تحسن تقدير عاقبة الأمر الذي تختاره، كما دعوت الزوج إلى أن ينصت إلى كلام زوجته !! فلا أدري أين وجد الأستاذ الساسي هذا الفكر الشمولي الذي لا يؤمن بحق الفرد في الحرية والاختيار؟! والأمر في نهاية المطاف بالنسبة إلي مساحة للتفكير والنقاش، وساحتنا الفقهية ساحة غنية متعددة، تتسع للنقاش الذي نريده أن يكون موضوعيا منصفا وليس انتقائيا متحاملا!! إن المساحة المشتركة بين كل العقلاء والعلماء والمفكرين تجعلنا نطمئن إلى أن الحوار العلمي الهادئ والصادق والمنصف هو أحد المداخل الأساسية لتدبير الاختلاف في بلادنا وفي سائر البلدان. انتهى نص الرسالة. ونحتاج إلى بعض التوضيح مع توالي ما يكتب بشأن موضوع الفتاوى التي يسميها هو ضد المنطق وضد العقل، فهو بلا شك يعلم قبل غيره أن المنطق متعدد وأن العقل متعدد، وما يكون عنده منطق قد يكون عند غيره لا منطق، وما يكون عنده عقل قد يكون عند غيره لا عقل والعكس صحيح. والمخرج هو حسم أمر المرجعية، وهي عندنا المرجعية الإسلامية المستمدة من الوحي والمؤسسة عليه. وقد أحسن لما أدخل في نقاشه الإحالة على المرجعية الإسلامية وصار ينقب في فتاوى العلماء من يؤيد رأيه ويدعم موقفه، وهنا يكون الأستاذ الساسي قد حاول الدخول من الباب، وعليه بلا شك أن يعيد المحاولة مرات عديدة، وحينها سيعلم إن لم يكن يعلم أن الثروة الفقهية عند المسلمين من الغنى والثراء بما يعجز اللسان عن وصفه!! فهو يعلم قبل غيره تعدد المذاهب الفقهية، وأيضا تعدد الآراء الفقهية داخل المذهب الواحد، إذ تتحد الأصول وتتنوع الفروع، والمذهب المالكي ليس استثناء من القاعدة!! والأستاذ الساسي إذا تحلى بالقدر المطلوب من الموضوعية عليه أن يلتزم القاعدة الذهبية التي سطرها علماء الإسلام بعبارة غاية في الجمال والعدل والإنصاف وذلك قولهم: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، وكيف لا يكون ذلك والقرآن يعلم المسلمين والناس أجمعين هذا المعنى بصورة أبلغ في قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ، قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (سبأ :42 25) وعلى قدر إبحاره في مجال الدراسات الفقهية سيجد أن من القواعد الذهبية التي وضعها علماء الإسلام لا إنكار في مسائل الخلاف، فحين يكون الخلاف معتبرا لا يحق لهذا الطرف أو ذاك أن ينكر على الطرف الآخر ما دام الرأي الذي أتى به له مستنده، وقد ينفرد العالم بالرأي ولكنه يحتفظ بحقه في الاختلاف. وعلى الأستاذ الساسي أن يعلم أن ذات الثروة الفقهية الغنية والمتنوعة كانت الترجمة العملية لصلاحية هذا الدين لكل زمان وكل مكان، ولم يعجز علماء الشريعة في يوم من الأيام عن إيجاد أجوبة شرعية لنوازل متجددة، وهم في ذلك يقتدون بالحوار الجميل الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: بما تقضي يا معاذ؟ فأجابه قائلا: بكتاب الله.. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: فان لم تجد في كتاب الله..؟ أقضي بسنة رسوله.. قال الرسول صلى الله عليه وسلم :فان لم تجد في سنة رسوله..؟ قال معاذ:أجتهد رأيي، ولا آلوا.. فتهلل وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله. وفي الأخير سيجد الأستاذ الساسي أن في ذات الثروة الفقهية مسائل محسومة ليس فيها إلا قولا واحدا، وهي المساحة المشتركة بين المذاهب، وذلك لأن النص حسمها والله يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً (الأحزاب : 36) وتبعث نسخة منه إلى المكتب السياسي!! وبه الإعلام والسلام.