يعيش الإنسان المعاصر أزمات معقدة تتناول مختلف ضغوط الحياة من قوته اليومي ، وعمله المهدد، صحة أطفاله وسعادة أفراد أسرته، بالإضافة إلى الأمراض الغريبة المنتشرة. وبذلك فقد أصبح العلاج النفسي لتهدئة النفوس المضطربة متطلبا تلقائيا ووجوديا لشريحة كبيرة في المجتمع. فكيف ينظر المجتمع إذن لمن يطلب علاجا نفسيا؟، وما هي نظرة المريض لنفسه، وكيف ينظر الطبيب النفسي إلى نظرة المجتمع لتخصصه؟ بين الشعوذة والعلاج النفسي إن كثيرا من الناس إن لم يكن السواد الأعظم منهم ينظرون إلى الطب النفسي نظرة دونية وقاصرة بحيث يفضل الكثيرون اللجوء لقراء الحظ والمشعوذين بدل أن يواجهوا الواقع ويعترفوا به بالتوجه للطبيب النفسي، تجدهم يلهثون وراء حبال دائبة من أوهام والبحث عن ضحية يعلقون عليها مرضهم باتهامها بالسحر وأنها السبب الحالة النفسية التي يعانونها. أما الطبيب النفسي فتجدهم لا يذهبون إليه إلا بعد أن تضيق بهم السبل في استحياء تام وهذا هو حال عبد الرحمن البالع من العمر 46 عاما، في مقابلة ل التجديد يقول عبد الرحمن أن الحالة التي آل إليها هي نتيجة تأخره في الذهاب إلى الطبيب النفسي، وكان يعتقد أن الكآبة التي يعانيها سببها هو السحر الذي لطالما اتهم به إحدى قريباته، فأضاع سنوات من عمره من مشعوذ لآخر، حتى تبين له أنه لا يجني من وراء كل ذلك سوى هدر للأموال والوقت، وحالته لا تزداد إلا سوءا خاصة أمام الوساوس التي يزرعها في نفسه المشعوذون، ليدله في الأخير أحد أصدقائه على معالج نفسي، عله يفلح فيما لم يفلح فيه المشعوذون، وبعد حوالي 6 أشهر من العلاج بدأت حالة عبد الرحمن في تحسن مستمر، وبدأ يشعر أنه يتخلص من تلك الأوهام التي تملأ مخيلته فارتأى في النهاية أن يغير طريقة عيشه وأن يتبع نصائح الطبيب عن حرف سيما أنه يشعر بتفتح ذهنه وبأنه تحرر من عقدة اسمها الشعوذة، بل تعلم أن أيضا أن إرادة الإنسان والحرص على الصفاء الذهني وقوة الإرادة في قهر الصعوبات هي المفتاح أمام العلاج النفسي، وهي مفتاح الشخصية المتوازنة والطبيعية. هل يكفي العلاج النفسي؟ منذ أزيد من 4 سنوات وزهرة تتخبط بين المعالجين النفسيين، لكن حالتها لم تشفى بعد بشكل كلي، غير أنها بدأت تشعر بتحسن في الآونة الأخيرة وبأنها بدأت تتخلص من مخاوفها وتنام بشكل طبيعي بعدما حرمت النوم لسنوات بسبب الخوف والهواجس التي كانت تلازمها. زهرة أيضا لم تؤمن بالعلاج النفسي منذ البداية غير أن أبنائها وجهوها إليه بحكم مستواهم الثقافي ووعيهم بأهمية العلاج النفسي لحالتها، غير أنها مع ذلك كانت بين الفينة والأخرى تزور بعض المشعوذين للتخلص من السحر الذي أصابها حسب تعبيرها في لقائها ل التجديد . لكن ذلك لم ينفع بشيء فداوت على استعمال الأدوية والعقاقير التي يصفها لها الأطباء النفسيين، غير أن مفعول الدواء كان يخدرها ويجعلها غير قادرة على الحركة ولا على بذل أي مجهود، بل كانت أغلب أوقاتها تقضيها في النوم، إلى أن غيرت الطبيب قبل سنة، فبدأ بتخفيض كمية العقاقير المستعملة إلى أن تخلصت منها كاملة قبل أيام فقط، أيضا أصبحت تشعر بالتجديد في حياتها وأن بقهرها لمرض الوسواس والخوف المرضي تستطيع أن تقهر جميع الأمراض النفسية الأخرى، الأمر الذي جعلها تتق في نصائح طبيبها المعالج وتطلب مشورته في كل وقت تجد نفسها في حاجة لذلك، تقول زهرة إن المريض الذي يلجأ إلى المشعوذ لا يذهب إليه مختارا بل ينشد فيه النجاة من الحالة التي يعيشها، وهذا راجع مع الأسف حسب زهرة إلى غياب الوعي بالعلاج النفسي بين شريحة كبيرة من المجتمع، ناهيك عن أنه ليس كل المعالجين النفسيين أكفاء وإنما بعضهم لا يبذل أي جهد ويكتفي بوصف العقاقير للمريض والتي تكون في غالبها مخدرة مما يجعل المريض يفقد الثقة في المعالج النفسي. رأي الطبيب من جانبه أكد الأخصائي النفسي الدكتور عبد الكريم لقدم في تصريح ل التجديد أن الكثير من المرضى النفسيين ما يزالون يتحرجون من زيارة الأخصائي النفسي أو المحلل النفسي، لأنهم لم يثقوا بعد في نجاعة هذا العلاج ونجاحه، أو ربما لأنهم ما يزالون يتصورن المرض النفسي على أنه لعنة يصيب بها الله من يشاء من عباده، ويعترون المريض النفسي الذي غالبا ما ينعثه الآخرون ب الأحمق عارا وشنارا ابتلي به صاحبه، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب؟؟ والعراقيل التي تقف اليوم في وجه العلاج النفسي في المغرب حسب الدكتور لمقدم وتمنعه من تقديم خدماته لكثير من الناس، لهي شبيهة بتلك التي عانت منها أوروبا منذ سنين، وها هي اليوم تجني ثمار هذا العلم الحديث النشأة، والذي بات مطلوبا في كل مجالات الحياة، بل تعدت خدماته الإنسان لتشمل الحيوان الأعجم. لهدف نفسي كيف نتنكر لهذا العلاج وما أنجبت أمة من الأمم معالجا نفسيا كابن سينا منا ؟؟ بل كيف لا نكون رواد العلاج النفسي في العالم كله ونحن من أمة سيدنا محمد وهو القائل: لكل داء دواء إلا الموت . وفي هذا الصدد أكد الدكتور لمقدم أن الداء الذي يصيب الإنسان نوعان: روحي وجسدي، أما الداء الجسدي فلا ينكره أحد أو بالأحرى لا يتحرج من الاعتراف به أحد، غير أن الداء الروحي أو النفسي ينكره الكثير من الناس، ويتحرجون من ذكره، ويتعوذون منه استعاذتهم بالله من الشيطان الرجيم أو أكثر. ولعلنا قد نتساءل باستغراب حسب الدكتور لمقدم: ما الذي حمل الناس أن يكونوا له منكرين علما أن المرض النفسي قديم قدم الإنسان عينه، وهو في ترتيبه الوجودي أسبق من المرض العضوي ؟؟ وهذا الإنكار يربطه الدكتور لمقدم بثلاث عوامل لا غير: * العامل الأول: الإنسان بطبعه ينفر من كل تجريد ويركن إلى ما هو ملموس ومحسوس، لكونه لا يسعه أن يحكم إلا على ما هو ظاهري. وبما أن المرض النفسي قد تنعدم فيه الأعراض المرئية كما هو الشأن بالنسبة للأمراض العضوية فإنه لم يقر بوجوده. * العامل الثاني: مادامت الآلام النفسية - حسب ما يعتقد كثير من الناس ليس لها أي تأثير جسدي فإن ذلك دليل على عدم وجودها، وحتى وإن وجدت فهي مجرد تراخي وكسل في مواجهة مشاكل الحياة. وكثير ما نسمع عن الذي يعاني مشاكل نفسية بأنه شخص فاشل، أو أنه لم يبلغ مبلغ الرجال، أو أنه تربى تربية مدللة، أو أنه يتصنع ذلك...إلخ * العامل الثالث: غياب الأعراض وغياب آثار الآلام مع إقرار المرضى بوجود ذلك، جعل كثيرا من الناس يربطون هذه الأمراض بما هو غيبي وخرافي. هذا الطابع الغائي شجع كثيرا من الدجالين والكذابين أن ينصبوا أنفسهم أوصياء على المرض النفسي ويعطوا لأنفسهم الحق في علاجه، بل إن كثيرا من هؤلاء ربط العلاج بنفسه كشخص أو كطريقة كما فعل ميسمير بألمانيا منذ قرون حينما ربط التنويم الإيحائي بشخصه ولم يربطه بالعلم. إن هذه التبريرات التي يقدمها هؤلاء المنكرون لهي أهون من بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون، فالتجريد ما كان في يوم من الأيام يحول بين الإنسان والعلم، بل ربما كان التجريد مساعدا للإنسان لفهم كثير من الظواهر وتقنين مجموعة من الضوابط العلمية فخطوط الطول والعرض هي نوع من التجريد، لكن يعود لها الفضل في تنظيم الرصد الجوي. أما غياب الأعراض فليس دليلا على انعدام لمرض، بل إن كثيرا من الأمراض العضوية حتى وإن كانت فتاكة - تفتقد في بداية تكونها لوجود العرض، ولا يظهر إلا بعد فترة التخمير كما هو الشأن مع داء فقدان المناعة المكتسب. أما كون كثير من الدجالين الذين قد نصبوا أنفسهم أوصياء على هذا المرض باسم الدين، أو أولئك الذين خاضوا في غير اختصاصهم وحسبوا أنه بوسعهم علاج هذا النوع من المرض، فسبب ذلك راجع بالأساس إلى خلو الساحة من المختصين الحقيقيين في هذا المجال كما قال الشاعر: إذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزال نظرة المجتمع ومن جهة أخرى يرى الكثيرون ممن قابلتهم التجديد أن نظرة المجتمع لم تتبدل رغم تطور العلم فهي نظرة دونية .. فكأنما لا يتعالج من المرض النفسي إلا من يتعرض لحالات طبيعية مثل القلق اليومي من جراء العمل مثلا ، فالإنسان يتعرض لضغوط يومية خارجة عن إرادته .. وربما يحتاج بذلك لعلاج نفسي ... ولا يعني ذلك بأنه مجنون كما ينظر إليه المجتمع ولعل ما لا يعلمه كثير من الناس أن الطب النفسي فرع من فروع الطب تماماً مثل أمراض القلب وأمراض الجهاز الهضمي أمراض لها أسبابها وأعراضها وأساليب علاجها المختلفة والمشكل أن الكثير من الناس يتجاهل المرض النفسي حتى يتفاقم ويصعب أحياناً معالجته فقد يؤدي المرض النفسي إذا أهمل إلى انتحار المريض، أو إقدامه على أذية غيره من الناس، وليست الأذية محدودة بعمل معين بل أن أذيته للناس قد تكون عن طريق استخدامه لأساليب عديدة من المنطق في الكلام، الكذب، السرقة، وقد تصل للقتل، أي أن أذيته للناس تختفي تحت قناع المرض.