ارتبطت كلمة المراجعات الفكرية في أذهان كثيرمن الفاعلين، بالفكر الثوري أو الانقلابي، وبالجماعات أو التنظيمات التي تتبنى العنف وسيلة للتغيير، وفي المقابل اعتبرت التنظيمات السلمية، سواء التي رفضت اعتماد العنف منهجا للتغيير منذ تأسيسها، أو تلك التي تخلت عنه لاحقا، أنها غير معنية بأي مراجعات، ما دامت وسائلها سلمية وأهدافها معلنة وعملها في الوضوح. إلا أن الأمر خلاف ذلك، فالمراجعات الفكرية وجب أن تكون عملية مستمرة ودائمة لا تنقطع أبدا، بمعنى أن تكون منهجا لا قرارا، ووجب أن تعم جميع التنظيمات وكل الحركات، باعتبار أن عملية النقد الذاتي والمراجعة غير مطلوبة وملحة فقط بالنسبة لحركات العنف والتطرف، بل إنها ضرورية ومركزية بالنسبة لكل التنظيمات مهما تعددت أهدافها ووسائلها، ولهذا لا نتردد في القول بأن كثيرا من إخفاقات الحركات الإسلامية وما تعانيه من احتقانات داخلية ومشاكل تنظيمية وأحيانا انشقاقات واضطرابات، يرتبط في جزء كبير منه بضعف وضآلة ثقافة المراجعة في أوساطها. ولذلك فإنه لا يحق لأي حركة إسلامية تعلي من مرجعية التواصي بالحق، أن تغتر بكونها قد بلغت النضج النهائي، بمجرد أنها آمنت بالانتقال من التشدد إلى الاعتدال، ومن التطرف إلى الوسطية، ومن العنف إلى السلم، ومن السر إلى العلن، فتعتبر نفسها غير معنية بعد ذلك بقضية المراجعة والنقد الذاتي، بل هي مدعوة دائما إلى البحث عن الأفضل والأحسن والأجود، ومطالبة كذلك بالتمحيص الدائم والاختبار المتواصل لبرامجها وأفكارها وممارساتها على أرض الواقع، فلا يعقل أبدا أن تبقى هذه الحركة أو تلك جامدة ومتوقفة عند مرحلة تاريخية بعينها لا تريد أن تجدد في فكرها إلا بعد الوصول إلى حافة الأزمة. وإذا كانت المراجعة مطلوبة في كل الأحوال، فإنه ينبغي التمييز بين المراجعات الاستباقية المبكرة، والمراجعات الاضطرارية المتأخرة. فالمراجعات الاستباقية المبكرة تكون مبنية على استقراء الواقع، ورصد التحولات والتطورات؛ سواء في داخل التنظيم أو في محيطه، والبحث في كل ذلك عن مختلف الفرص والتهديدات الناشئة أو المتوارية، وعن عناصر القوة والضعف الداخلية والخارجية، لتتوقع البلاء قبل وقوعه، وتسأل عن الأزمة قبل حدوثها،على منهج الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان كما ورد عنه في صحيح البخاري أنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله إنّا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ فالسؤال عن الشر والانسداد قبل وقوعه يساعد على الاستعداد والتهيؤ المسبق، ويعمل على إيجاد المخارج والبدائل لمختلف الاحتمالات المتوقعة. وبذلك تأخذ المراجعات وقتها الكافي للمناقشة المستفيضة والدراسة المتأنية والتفكير الرصين، في ظروف عادية تسمح باتخاذ القرارات الأقرب إلى الصواب بكل أريحية، بعيدا عن الضغوط الداخلية أو الخارجية، كما تأخذ وقتها الكافي لإقناع الصف الداخلي، والإجابة عن الأسئلة المطروحة، فتقي التنظيم الاحتقان الداخلي والارتباك، وتقي الأعضاء الإحباط أو التذمر. وأما المراجعات الاضطرارية المتأخرة، فتأتي بعد الوصول إلى حالة الانسداد والاحتقان الداخلي، وحالات الصراع والشقاق وربما الانشقاق، أو تحت الضغط الخارجي، والتضييق الأمني والسياسي، أو من واقع السجون والمنافي، فتأتي متأخرة، يؤدي التنظيم ثمنها غاليا، كما تأتي القرارات الناتجة عنها مرتبكة ومتسرعة ومنفعلة، مما يحدث ارتباكا في الصف الداخلي، وتشككا في قرارات القيادة، وهل جاءت بناء على قناعات راسخة ومبنية على أسس متينة؟، أم هي تعبير عن الخضوع والتنازل والاستجابة للضغوط؟، وما قد ينجم عن ذلك من نشر لأجواء الريبة وانعدام الثقة، وربما الإحباط والتذمر في صفوف الأعضاء. هذا مع التأكيد على أن المراجعات وإن جاءت متأخرة فهي مطلوبة، وأولى من عدم العودة عن الخطأ والإصرار عليه. وكمثال على المراجعات الاستباقية، يمكن استحضار النقاش الذي خاضته حركة التوحيد والإصلاح في موضوع المشاركة السياسية، إذ فتحت بشكل مبكر نقاشا فكريا وشرعيا معمقا في مسألة الموقف من الدولة وإسلاميتها، والموقف من العمل في إطار الدستور والقوانين المعمول بها في البلاد، وقد كانت نقاشات طويلة تميزت بالعمق والجرأة والشجاعة والجدية، في وقت لم تكن تظهر فيه بعد أي بوادر لإمكانية العمل الحزبي. كما أخذت المراجعات وقتها الكافي في النقاش بمشاركة جميع الأعضاء وعلى مستوى جميع الهيئات، لتخلص إلى الانتقال من مركزية إقامة الدولة وأولويتها في مشروع الإصلاح المنشود، إلى رحابة إقامة الدين على مختلف المستويات، وانتهت إلى تبني خيار المشاركة منهجا ومبدأ في مشروعها الإصلاحي. والحركة حينما تبنت خيار المشاركة في شموليته، فإنها لم تحصره في المشاركة السياسية والانتخابية فقط، ولم تراهن عليه وحده، ولم تجعل منه المدخل الوحيد للإصلاح الذي تنشده، وذلك هو ما جعل الحركة اليوم في مأمن من حالة الانتكاسة التي بدأت تظهر ملامحها في كتابات بعض قيادات الحركات الإسلامية، والتي عند أول حالة انسداد، أو تضييق في السقف السياسي، تنقلب خطاباتها لردة فعل لتطرح من جديد سؤال جدوى المشاركة السياسية، وتنادي بالرجوع إلى منهج المفاصلة والمقاطعة.