باستثناء أن الرئيس حسني مبارك عاد من واشنطن سالماً معافى والحمد لله، فلست أجد في أخبار الزيارة شيئاً يسر أو يشرح الصدر، وإنما حدث العكس تماماً. (1) من البداية قلنا إن الرئيس أوباما «يتطلع» للقاء الرئيس مبارك. ووصف إعلامنا الرسمي الزيارة بأنها تاريخية قبل أن تبدأ. وناجحة قبل أن تظهر نتيجتها. وجاملتنا السفيرة الأمريكية في القاهرة مارجريت سكوبي بكلمتين أبرزهما الأهرام في عناوينه. فقرأنا على لسانها أن الزيارة فرصة لسماع «نصائح» مبارك حول مختلف القضايا. وشارك السيد صفوت الشريف في المزاد بعبارات رفع فيها السقف، فقال في اجتماع لإحدى أمانات الحزب الوطني إن النجاح المشهود الذي حققته الزيارة أعاد قوة الدفع إلى العديد من القضايا المهمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية. ولم يفته أن ينوه إلى أن الرئيس بحكمته ودوره التاريخي في المنطقة أكد (في الزيارة) على المبادئ الأساسية التي تتمسك بها مصر «الأهرام 20/8». تحت هذا السقف قيل كلام كثير حول استعادة الدور التاريخي لمصر، والدروس التي لقنها الرئيس المصري لنظيره الأمريكي، والانطلاقة المرتقبة لعملية السلام، والتحذيرات التي وجهتها الزيارة لأي دولة إقليمية تلعب بذيلها في المنطقة (لا تخطئ وتتصور أن إسرائيل هي المقصودة، لأن الرسالة موجهة إلى إيران)، قرأنا أيضاً سيلاً من التعليقات التي تحدثت عن مفاتيح القوة والنفوذ التي تملكها القاهرة، التي ظلت البوابة الوحيدة للمنطقة وحجر الزاوية فيها.. إلخ. وذلك كله كلام طيب يعبر عما نتمناه حقاً، لكن ينقصه شيء واحد، هو أن يجد الدليل الذي يؤيده ويترجمه على أرض الواقع. (2) إن الكلام عن أهمية الدور المصري لا شك فيه، فذلك أمر الجغرافيا ودرس التاريخ. لكن مفهوم الأهمية هو الذي يكتنفه بعض الغموض والالتباس، فثمة أهمية تنطلق من تأثير مكتسب من قوة البلد السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، وثمة أهمية تتكئ على دور يقوم به البلد في إطار استراتيجيات الدول الكبرى. إن شئت فقل إن الأهمية في الحالة الأولى تخدم مشروع الوطن والأمة. أما في الحالة الثانية فهي تخدم استراتيجيات الدول سابقة الذكر. من هذه الزاوية فحين يتحدث المسؤولون في واشنطن مثلاً عن أهمية الدور المصري ويشيدون به، فينبغي أن نتمهل في الحفاوة بتلك الشهادة. حتى نجيب عن السؤال: في أي إطار يمارس ذلك الدور، وفي أي وعاء يصب؟ من الملاحظات التي لا تخفى دلالتها في هذا السياق أن أغلب الإشارات التي تتحدث عن أهمية الدور المصري تصدر عن المسؤولين الأمريكيين وبعض نظرائهم الغربيين، في حين أن الإعلام الغربي يتحدث عن مصر بشكل مختلف تماماً. ومن يقرأ مثلاً مقالات «الواشنطن بوست» في الولاياتالمتحدة، والدراسة الأخيرة التي نشرتها مجلة «الإيكونوميست» البريطانية وكل منهما له ثقله واحترامه يقلقه الكلام المكتوب عن مصر، خصوصاً أوضاعها السياسية والاقتصادية. ولم يعد سراً أن سمعة مصر في مجال الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان لم يعد ممكناً الدفاع عنها، ناهيك عن أن مسألة توريث السلطة (السر المعلن) أصبحت موضوعاً للتندر والتنديد (لا تنسَ أن زيارة الرئيس رتبت أثناء عطلة الكونجرس لتجنب إحراجه من جانب أعضائه)، باختصار فإنهم في العالم الخارجي صاروا يعرفون عن أوضاعنا السياسية مثلما نعرف. والكلام الطنان الذي قد ينطلي على البعض منا لم يعد ينطلي عليهم. ولذلك لم يكن مستغرباً أن تصنف مصر ضمن الدول «الفاشلة» سياسياً. أما من الناحية الاقتصادية، فيكفي أن تعرف أن الدخل الفردي لمصر يصنف الآن في المرتبة 112 (البعض يضعها في المرتبة 127) بين دول العالم (190-195). وفي حين وصل متوسط دخل الفرد في عالمنا المعاصر إلى 9 آلاف دولار في السنة، فهو في مصر يتراوح ما بين 1600 و200 دولار، أي أنه أقل من ربع المتوسط العالمي. لا تسأل عن خدمات الصحة والتعليم والإسكان، لأن قارئ الصحف الصباحية صار يتابع كل يوم أخبار الفضائح التي تحدث في تلك المجالات، وما شرب المياه المختلطة بالمجاري، وري زراعات الخضراوات والفواكه بمياه الصرف الصحي، إلا أحدث لقطة في ذلك المسلسل. مثل هذه «العورات» لا يسترها التاريخ أو الجغرافيا. ثم إنها لا تنال من هيبة البلد وسمعته فقط، ولا تهدد أمنه القومي فحسب، وإنما هي تفقد البلد قدرته على التأثير، ولا أبالغ إذا قلت إنها تجعل استعداده للتأثر أكبر وأقوى من أهليته للتأثير. في ضوء هذه الخلفية فإن الحديث عن «التحالف الإستراتيجى» بين الولاياتالمتحدة ومصر، يصبح أمراً مقلقاً يثير عديداً من الأسئلة حول دقة التعبير من ناحية، وموقع كل من البلدين في هذا التحالف من ناحية أخرى، الذي يوحي المصطلح فيه بأنه واقع بين أفعال، وليس بين أوزان مختلفة، على هيئة أشبه بالقاطرة والمقطورة. لقد شعرت بغصة في حلقي حين قرأت على لسان الرئيس أوباما في المؤتمر الصحفي الذي عقد في ختام الزيارة (يوم 18/8) قوله إن الولاياتالمتحدة ومصر عملا معاً وبشكل وثيق طوال الثلاثين سنة الأخيرة، وأن «الرئيس مبارك كان طوال هذه الفترة قائداً ومستشاراً وصديقاً». وهو كلام يحتاج إلى تدبر وتفكير عميقين، لأنه يثير السؤال المزعج التالي: هل كان الدور المصري شريكاً بهذه الصفات في الممارسات الأمريكية التي تمت في المنطقة العربية طوال تلك الفترة؟ ولأن الرئيس الأمريكي لا يلقي الكلام على عواهنه، فأي قدر من المرارة والألم يستشعره المرء حين تصدمه هذه الحقيقة؟ (3) لا نعرف شيئاً عما دار في «الخلوة» التي تمت بين الرئيسين مبارك وأوباما. ويتعين لنا أن ننتظر معلومات الصحف الأمريكية حتى نقف على ما جرى في ذلك الشق الغاطس والمسكوت عليه من المباحثات، وإلى أن يتحقق ذلك، فليس أمامنا سوى أن نتعامل مع ما تم إعلانه من مواقف، بعضها يتعلق بالشأن المصري، والبعض الآخر يتصل بالملف الإيراني، والثالث بالشأن الفلسطيني، ما خص الشأن المصري جاء مختصراً وعاماً، فقد ذكر الرئيس مبارك أن المباحثات تناولت مسألة الإصلاح في مصر، وأنه أوضح أنه خاض الانتخابات الأخيرة على أساس برنامج للإصلاح جارٍ تنفيذه، وذكر تقرير للشرق الأوسط أن الرئيسين بحثا أيضاً قضايا التنمية والتعليم (في مصر وليس في أمريكا طبعاً). من ثم فقد أحطنا علماً بالعناوين ولم نعرف شيئاً عن التفاصيل. التفصيلة الوحيدة التي ذكرت أثناء الزيارة جاءت غامضة للغاية. ذلك أن الرئيس مبارك حين سئل عن المستقبل في مصر أثناء الحوار التليفزيوني الذي أجري معه، قال إنه ليس معنياً بمن سيأتي بعده، لأنه مشغول بتنفيذ برنامجه الانتخابي. وأن ابنه جمال لم يفاتحه في مسألة ترشحه للرئاسة. وهو كلام يحير المواطن المصري الذي يصعب عليه تصديقه، خصوصاً إذا ما قارن محتواه بما يشاهده يومياً على أرض الواقع. ولم تكن الحيرة من نصيبنا وحدنا، لأن «الشروق» نشرت في عدد الخميس 20/8 أن أحد الخبراء الأمريكيين فهم من كلام الرئيس أنه لن يتقاعد، وسيرشح نفسه للانتخابات القادمة. الموضوع الإيراني، الذي أرجح أن نصيبه من المباحثات يعادل الشأن الفلسطيني إن لم يكن أكثر، ولا أستبعد أن يكون أحد الموضوعات الأساسية التي نوقشت في الخلوة سابقة الذكر، تم تناوله أيضاً بشكل مقتضب وعام في كلام الرئيسين. فقد قال أوباما في المؤتمر الصحفي إنه بحث مع مبارك «القلق المشترك لانتشار الأسلحة النووية في المنطقة، بما فيها تطوير إيران لأسلحة نووية، وكيف يمكن التعاون على تلك الجبهات»، أما الرئيس مبارك فقد نقلت عنه وكالة يونايتدبرس قوله في لقائه مع زعماء الطائفة اليهودية: إن هناك انشقاقاً داخل القيادة الإيرانية. والطريقة الأفضل للتعامل «مع البرنامج النووي الإيراني» هي الانتظار.. وأن الهجوم العسكري «على إيران» لن يؤدي إلا إلى الالتفاف حول قيادتهم. لا أجد في هذا الكلام أي إيحاء بنجاح الزيارة ولا بفشلها. ولكنك لابد أن تلاحظ أن الشق المعلن منها في الشأن الإيراني تجاهل تماماً "إسرائيل" النووية (كأنها لا تشكل خطراً)، وركز على كيفية التعامل مع المشروع النووي الإيراني، بما قد يعد تمهيداً لإثارة موضوع الأمن الإقليمي والمظلة النووية المزمع إقامتها في المنطقة، بدعوى تبديد مخاوف منطقة الخليج ومصر من الخطر الإيراني. وهو خبر سار ل"إسرائيل". ليس فقط لأنه يشكل تأميناً إضافياً لها وردعاً لإيران، ولكن أيضاً لأنه يصرف الانتباه عن مشروعها النووي وما تمثله أطماعها من خطر حقيقي على المنطقة. (4) لو أن متحدثاً قال في أي جمع عربي إن جهود عملية السلام في فلسطين «تمضي في الاتجاه الصحيح»، لسخر منه السامعون واتهموه إما بالكذب أو بالهبل. لكن حين يردد المقولة الرئيسان المصرى والأمريكي، فإن ذلك يفاجئنا، لأنها تظل غير قابلة للتصديق. لقد بنى الرئيس أوباما كلامه على أساس معلومات ذكرت أن نتنياهو قرر تجميد الاستيطان، فيما بدا أنه استجابة للمطلب الأمريكي الداعي إلى التجميد من قبل الإسرائيليين، مقابل التطبيع من جانب العرب. ويفترض في هذه الحالة أن يكون ذلك إيذاناً بإطلاق المفاوضات التي تحقق التسوية النهائية، لكن بعد ساعات من تصريحات الرئيس الأمريكي التي امتدحت نتنياهو بسبب ما نقل عنه، أصدر مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية بياناً أعلن فيه أنه لم يصدر بياناً بهذا الخصوص، وأن الإجراءات القانونية السارية حالياً لوقف التوسع الاستيطاني قائمة من الحكومة السابقة. وأن حكومته لم تتخذ قراراً جديداً في الموضوع، وكل ما هنالك أنه لم تكن هناك مشاريع بناء جديدة للبت فيها. وفي التقرير الذي نشرته «الشرق الأوسط» حول الموضوع (في 20/8) ذكرت أن كل الكلام الدائر عن تجميد الاستيطان ينصب على تصاريح البناء الجديدة، ولا يتطرق إلى المشروعات التي يتم بناؤها حالياً، أو التي هي في طور الإعداد، وعددها يقدر بآلاف الوحدات السكنية. في هذا الإطار نشرت صحيفة هاآرتس في ملحقها الاقتصادي (يوم 19/8) أنه سيتم تنفيذ مشروع «قديم» لبناء 450 مسكناً في حي استيطاني بالقدس. وقالت إن عملية البناء فيها ستبدأ في مستهل العام الجديد. لا تقف المفارقات عند ذلك الحد، لأن مكتب الأممالمتحدة للشؤون الإنسانية في الأرض المحتلة، أصدر تقريراً في بداية الشهر الحالي رصد فيه جهود المستوطنين لتهويد القدس، التي أدت إلى إصدار 1500 قرار لإزالة منازل الفلسطينيين، وطرد 53 أسرة فلسطينية من بيوتها، تمهيداً لإقامة مستوطنة جديدة. لقد تم تجاهل كل ذلك، وجرى التعلق بما نسب إلى نتنياهو خاصاً بتجميد الاستيطان، لإيهام الرأي العام العربي بأن الأمور تمضي في الاتجاه الصحيح. وكنت قد ذكرت في حديث سابق أن التوسع في الاستيطان يشكل أحد بنود البرنامج الذي انتخب على أساسه نتنياهو رئيساً للحكومة، ولذلك فإن الرجل اتهم من قبل اليمين الإسرائيلي بخيانة ناخبيه حين شاع خبر التجميد، الأمر الذي اضطره إلى إصدار بيان النفي الذي سبقت الإشارة إليه. إننا بصدد فضيحة سياسية يساق العرب فيها إلى التطبيع مقابل تجميد مؤقت للاستيطان تصر "إسرائيل" على أن يكون لمدة ستة أشهر فقط، ويطالب المبعوث الأمريكي بأن يستمر لمدة سنة (هو تجميد رمزي في الحقيقة لنبتلع الطعم بما يؤدي إلى التطبيق ويطلق المفاوضات التي خبرناها ونعرف أنها يمكن أن تستمر للأبد، في حين تنفتح أبواب العالم العربي ل"إسرائيل" على نحو تدريجي). لا تقف الفضيحة عند ذلك الحد. لأن هذا الذي يحدث يعد تنفيذاً للأجندة الإسرائيلية، والتزاماً بموقف نتنياهو الذي تبنى منذ تولى رئاسة الحكومة قبل خمسة أشهر فكرة «الالتزامات المتبادلة»، وقال إن "إسرائيل" لن تتقدم خطوة إلى الأمام إلا أخذت مقابلاً لها من العرب. وهذا الكلام ترجم إلى موقف مشترك أثناء الزيارة، أبرزته صحيفة الأهرام في 19/8 في عنوان على ثمانية أعمدة نقل عن متحدث باسم الخارجية الأمريكية قوله: القاهرةوواشنطن تتفقان على ضرورة اتخاذ خطوات عربية إسرائيلية متوازية لتحقيق السلام(!). ينتاب المرء شعور بالخزي والخجل، حين يطالع عنواناً بهذا القبيل، ثم يقرأ في اليوم ذاته (19/8) تصريحاً لوزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو بثته وكالة أسوشيتدبرس قال فيه إن على "إسرائيل" أن تتخذ من جانبها خطوات تثبت رغبتها في إنهاء صراعها مع العرب. لقد تجنب الرجل الوقوع في مصيدة التنازلات المتبادلة، وطالبها هي بأن تثبت حسن نيتها أولاً. وكان في ذلك مصيباً تماماً، كما أنه أكثر استقامة ونزاهة. إن الملابسات التي أحاطت بالزيارة والتصريحات التي صدرت عن حصادها تستدعي سؤالاً كبيراً هو: هل مصر لاعب كبير حقاً أم أنها ملعوب به؟.