وحدهم المهزومون في هذه الأمة هم الذي يعجزون عن رؤية معالم الانحطاط والهزيمة في المجتمع الصهيوني، أما الشرفاء وأنصار المقاومة فيرونها حقيقة واقعة، ويدركون أن المشروع الصهيوني في طريق الأفول، ليس بسبب مشكلة الديمغرافيا على أهميتها كما يذهب كثيرون، بل بسبب الانحطاط الداخلي والهزيمة النفسية التي تأتي نتاجا لضغوط المقاومة التي تتعزز ثقافتها في الوضع الفلسطيني والعربي والإسلامي. خلال الأيام الماضية تابعنا عددا من الوقائع التي تؤكد هذه الحقيقة التي تحدثنا عنها مرارا خلال الأعوام الأخيرة: تحديدا منذ حرب يوليوز 2006 وما تركته من آثار نفسية على المجتمع الإسرائيلي، الأمر الذي جعل تلك الآثار أكثر وضوحا بسبب العجز عن إخضاع الشعب الفلسطيني خلال مسيرة انتفاضة الأقصى، ومن ثم الانسحاب من قطاع غزة، وبعد ذلك العجز عن تركيعه. ما بين شهادات الجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في عملية الرصاص المصهور في قطاع غزة، وتداعيات صفقة تبادل الأسرى التي لم تكتمل مع حماس، ومن ثم الرد الإسرائيلي على فشلها، تتعرى هذه الدولة المحتلة بجيشها ومجتمعها. في غزة كان عنوان العمل الميداني للجنود هو تجنب أية إصابة في صفوفهم، حتى لو أدى ذلك إلى قتل وجرح عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين وهدم آلاف البيوت، ولا تسأل عما تركته الهزيمة في نفوس الجنود من أمراض جعلتهم يرتكبون ممارسات موغلة في البشاعة والعنصرية. ليس هذا مجال سرد الوقائع التي وردت على ألسنة الجنود، وهي من دون شك أقل بكثير من الحقيقة، فقد كتب ونشر عنها الكثير، لكننا نشير إليها في معرض الرؤية التي نتحدث عنها لا أكثر. في سياق صفقة الجندي شاليط، تابعنا ذلك الجدل المحتدم في المجتمع الإسرائيلي حول الصفقة، لا سيما بعد أن أقامت عائلته خيمة اعتصام دائمة أمام منزل رئيس الوزراء، وهي الخيمة التي انضم إليها وزراء ونواب وأشخاص عاديون، بينما تظاهر مقابلهم آخرون من عائلات قتلى العمليات الاستشهادية. بحسب الكاتب الإسرائيلي يوئيل ماركوس (هآرتس 20 ـ 3)، فقد نقلت تسريبات إعلامية عن إيهود أولمرت قوله هذا الاحتفال سيقتلنا، وهو ما عقب عليه (أعني الكاتب) بالقول: والحق معه. في الجانب الفلسطيني أيضا توجد عائلات، وهي أيضا يؤلمها أن أبناءها أو آباءها مسجونون لسنوات عديدة في إسرائيل، ولكنهم ببساطة أقوى منا، ولعلهم أكثر إيمانا بقضيتهم منا. تلك هي الحقيقة التي يتعامى عنها المهزومون، فهنا في الجانب الفلسطيني ثمة مجتمع صامد ولديه القابلية للتضحية. في ذات السياق، تأتي ردة الفعل على فشل إتمام صفقة شاليط بسبب رفض حماس الخضوع للشروط الإسرائيلية، والتي تمثلت في حملة الاعتقالات التي طالت عددا من قادة حماس في الضفة، وأكثرهم كان خرج للتو من السجن بعد تنفيذ أحكام متفاوتة، إضافة إلى اتخاذ إجراءات عقابية بحق سجناء حماس والجهاد الإسلامي تمثلت في منعهم من التواصل مع العالم الخارجي عبر التلفزيون وزيارة الأهل والدراسة. إنه مؤشر آخر على انحطاط هذه الدولة وهزيمتها، وإلا فما قيمة المحاكم والأحكام والقضاة والقيم الأخلاقية التي يتبجح بها قادتها. لا حاجة للتذكير ببعد بالغ الأهمية يتعلق بغياب الكبار في الدولة، وتشرذم الأحزاب، الأمر الذي يعزز مسيرة التراجع التي فرضتها مسيرة المقاومة والممانعة في المنطقة من جهة، وتراجع روح التضحية مقابل صعود روح الفردية والاستهلاك من جهة أخرى. ذاك هو منطق أفول الدول والإمبراطوريات: تحديات خارجية قوية، وفساد يضرب في الداخل، وهنا في الدولة العبرية يتوفر العاملان بحمد الله.