لم يطلب مني الأخ المهندس محمد الحمداوي أن أكتب تقديما لكتابه كما طلبه من الأستاذ الفاضل محمد يتيم. ولئن فاتني شرف التقديم ضمن صفحات الكتاب، فلن يفوتني تقديمه وشرح بعضٍ من معانيه عبر صفحات هذه الجريدة المناضلة. ولن أكتم سرا القول بأنني وجدتني مدفوعا للكتابة عن هذا الكتاب الذي اختار له صاحبه الرسالية عنوانا لبيان مقاصده منه، والتي تجد في نفسي ميلا كبيرا لم تستطع التعبير عنه، فوجدت التوفيق قد حالف صاحب الكتاب لشرح وتشريح هذا الهم الذي عشته آمادا طويلة. وازداد منسوب هذا الدفع بإهداء خاص لصاحب الكتاب مع رائق عباراته، وسديد كلماته الطيبة في حق هذا العبد الضعيف، الممسك بقلمه للتعبير عن هذه الاستفادات التي انتشيت بها والتي دعوت لصاحبها بصالح الأعمال والأقوال في زمن غلبة رديء العبارات وسيء الممارسات. وهذا الكنز الذي شغله ومَلَكَ عليه فكره وتفكيره، ووُفِّق في تقديمه لعموم الصالحين أخونا المهندس، الذي عاش الرسالية وتدرج في أكنافها في العمل الإسلامي بالمغرب هو عنوان كتابه الرسالية يا قوم. لماذا الرسالية؟ إن الرسالية التي اختارها عنوانا فوفق التوفيق البعيد، لكون العمل الإسلامي والدعوة إلى الله عز وجل قد أوتيت من جهات ثلاث: الأولى: جهة الغافلين: وهم المضيعون للرسالة ومعانيها، لا يهتمون بهمها وهمومها، ولم يكتووا بنار عزها وكرامتها، ولم يحرصوا على إنقاذ أنفسهم وإنقاذ البشرية مما حل بها من صنوف النكبات، وقبائل الفتن المتلونة، بسبب البعد عن منهج النبوة الذي أسس للرسالة والرسالية أركانا وفروعا بارة بهذه الأصول والأسس. الثانية: جهة بعض العاملين للإسلام: ولكن هَمَّ الرسالة عند هذه الفئة في عملهم باهتة، يتم استدعاؤها للتوقيع عن شرودهم وأهوائهم. لقد غابت الرسالة والإخلاص لمقتضياتها، أو إن شئت أن تقول: لقد غيبوهما عن خط عملهم ونضالهم فلم تكن بعيدة عن الصواب فحسب، بل انضافت سيئة غياب الإخلاص والنية الشرعية الصالحة. إنهم أؤلئك الذين قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية: ما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه، ظانة أنها تفعله طاعة لله. الثانية: جهة المعادين للرسالية: وهؤلاء يستعلنون تارة، ويستخفون أخرى بحسب ريح الغلبة ووجود النصير من عدمها. وإنما تحدثنا عنهم، لأنهم ظاهرة العصر الحديث. لقد كانت الأمة من قبل تؤتى من جهة أعدائها، ولم تكن تعرف أعداء من بني جلدتها إلا في العصر الحديث مع دخول الاستعمار بفكرة غزو الأفكار والتقاليد والعادات والدين، عوض التصارع مع حيازة التراب فقط. الرسالية مع الرساليين وهذه الطائفة الأخيرة هي التي انحاز إلى صفها المهندس محمد الحمداوي وجعلها خياره في الالتزام الشخصي والجماعي، كما جعلها قطب رحاه في المدافعة؛ حيث قال: لا بد من تعميق تصوري لخياراتنا المرحلية، من خلال مراجعات فكرية تعزز الفهم الرسالي لدورنا الإصلاحي في المجتمع، وتساعد على الاستيعاب التجديدي الذي يمس الآليات التصورية والمنهجية والتربوية والتخطيطية لعملنا الإسلامي الرسالي بكل أبعاده ومجالاته(ص20 من الكتاب). فالرسالية عند الأستاذ المهندس تصورٌ فكري عقلي، يحتاج دائما إلى المراجعة وتعزيز المراجعة حتى لا تلتبس الأهواء والشبهات والشهوات به، فتفقده الصلاح في الأرض والخسارة في السماء، وهي(أي المراجعة وتعزيزها) التي تمكن للإصلاح في المجتمع، وتدفع في اتجاه التجديد الذي ينفر من التقادم والآبائية التي أشار صريح القرآن الكريم إليها. ولا تتضرر الرسالية إذا جعلت مقصدا وهدفا، ولا ترتبك حركة العمل عند الرسالي إذا أنجزت الرسالة من طرف الغير أو معه، فالرسالي هدفه تحقق الرسالة واقعا في أرض الله، سواء كانت على يديه أو على يد غيره، فتكون التنظيمات وجهود الأفراد وسائل لتحقيق الغرض الأسمى، وهو قول المهندس: إن أي إنجاز مهما كبر حجمه أو صغر في إطار إقامة الدين بمعناه الشامل، سواء تحقق من خلال تنظيم الحركة أو بالتعاون مع غيرها، يصبح إنجازا في إقامة الدين الذي هو هدف قائم باستمرار(ص47 من الكتاب). ولا يقلب هذه الحقيقة إلا من انقلبت معاني الدين في وعيه. ومن تم أصر المهندس محمد الحمداوي على الجهر بصوت عال ـ وهو رئيس حركة إسلامية كبيرة في المغرب، لا يرى في قرارة نفسه خوفا عليها، وإنما هو مشغول بالدين وحياطته والدب عنه من الانحراف في فهم معانيه أو تزوير حقائقه ـ فقال: إن معاني الإسهام في إقامة الدين تجعل من التنظيم أداة وظيفية للتعاون على الدعوة والتربية وتكوين الأعضاء تكوينا رساليا، يجعلهم قادرين على الإسهام في إقامة الدين حيثما حلوا وارتحلوا(ص46 من الكتاب). الرسالية أو خسارة الآخرة ويعتقد كثيرون أن أمر الرسالية هيِّن لا يستحق كل هذا الاهتمام والتأكيد. والحقيقة الشرعية أن هذا الاعتقاد وهمٌ وغلط، يؤكد غلطه الواقع أولا، ويزيد في التأكيد أن غيبته سبب العثرات التي لم يستطع العاملون في الصف الإسلامي أن يلتفتوا إلى هذا المعنى الذي بقي المهندس الحمداوي يعمل على النحت فيه، مستعينا بمضامين الشريعة وواقع الحياة في بيان أحقيته ابتداءً وانتهاءً، وأنه هو الذي ينبغي استيعابه وإدخاله في ميدان المدافعة، لذلك كان عنوان كتابه الرسالية في العمل الإسلامي، ذاهبا إلى مزيد التوضيح بعنوان أصغر في الكتابة، ولكنه أكبر في الميزان الشرعي، وهو:استيعاب ومدافعة. فهذا هو الذي ينبغي استيعابه، وهذا هو الذي ينبغي استحضاره في مجال التطبيق الفردي والجماعي، إنه ميدان المدافعة. ولم يبعد النجعة السيد المهندس فيما قرره واختاره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ(مسلم: كتاب الإمارة: باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار). لقد ضاعت الرسالة والرسالية وحضرت كل الأشياء الأخرى إلا هي فقد كانت الغائبة الكبيرة عند جمهور عريض، وبسديد القول: كانت هي المغيبة قصدا أو جهلا. الرسالية أو خسارة الدنيا والذي يغيب عند الكثيرين أن ما كان مرفوضا شرعا غير مقبولٍ محذَّرٍ منه، فإن الإنسان قبل أن يخسر آخرته، فإنه يخسر دنياه. فتكون خسارة الدنيا حقيقة سابقة، فلا تنجح الأعمال ولا يكتب لها ذلك، وتفضح ويفضح أصحابها في الآخرة ثانيا، فتجتمع على مُغَيِّب الرسالية المصيبتين والخسارتين: الدنيا والآخرة. ولذلك قال العلماء: ما كان مرفوضا معاقبا عليه في الآخرة، فهو مرفوض معاقب عليه في الدنيا، وإن من خالف السنن الشرعية الدينية، يعاقب بالسنن الكونية الدنيوية، وهو مصداق قوله تعالى؟: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى؟(طه421:). فالضنك في المعيشة، والعمى في الآخرة. الرسالية وحدة وأخلاق ومما يجب أخذه بعين النظر والتفكر أن من أسباب الخلاف الأرعن، وسوء الأخلاق والآداب عند بعض من يشتغل بالدعوة وتبيليغها، غياب الرسالية مقصدا. فيقع الخلاف والتناكر بين القلوب وسوء الأدب بين من يعمل لرسالته، حيث ينكر نفسه، ولا يراها إلا حيث وجدت الرسالة، ولا يضره صدور الحق والصواب من هنا أو هناك، لأن له هدفا يسعى في البحث عنه، ويجِدُّ في إيجاده وكينونته. وبين من يعمل لا للرسالة ومقتضياتها، ولا ينشط لأداء مستلزماتها، ولكنه يخف للانتصار لفئته، وتقديمها على من عداها. هذه اللوثة التي يلصقها البعض بالرسالية هي التي اجتهد الأئمة الأعلام في غرسها في النفوس والقلوب، فأُثِر عنهم جميعا: إذا جاء الحديث فهو مذهبي، إذا صح الحديث فهو مذهبي؛ كل مخلوق يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر... وغيرها من أقوال الأئمة الرساليين. وأنكروا في المقابل على المتعصبين لمذاهبهم، الرادين للرسالة، المستنكفين أن يكونوا رساليين. حيث وجدناهم ينكرون على الإمام أبي الحسن الكرخي من الأحناف قوله: كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ. وحذر شيخ الإسلام ابن تيمية من اتباع الأهواء المغلفة بالدين حين قال: ولقد قارنت الأهواء الآراء. وعليه فإن صاحب الرسالية مقصوده السعي إلى توحيد الناس عليها، ومُغَيِّبُها لا تهمه الرسالية من قرب أو بعد، ولكن مبلغ علمه وكفاحه هو نصرة من معه وما معهم وعندهم. وصاحب الرسالية يلتزم بأخلاقها، ومغيبها تظهر في تصرفاته وأقواله الرعونات في الدفاع عن نحلته ومن ينخرط في جماعته. سيئات غياب الرسالية اجتهد الأستاذ المهندس في الإلحاح على تجنب المفاسد التي حلت بالأمة؛ أفرادا وجماعات؛ قيادات وتنظيمات، سواء من استحضر منهم الرسالية، أن يبقوا على يقظتهم في دوامها واستمرارها، أو أولئكم الذين غيبوا رسالية دينهم من خلال تنظيماتها، فأسلمهم ذلك إلى الاجتهاد وبذل الوسع الأقصى للتمكين لتنظيماتهم واختياراتها لا لرسالة رب العالمين، ففرخ هذا الفكر المنكوس: السرية والتميز؛ والمفاصلة، والاستعلاء؛ والانقلاب.. وهي سمات التجربة الأولى للحركة الإسلامية. قال وفقه الله تعالى: لقد كان التنظيم الانقلابي المنعطف الأول في مسيرة الحركة الإسلامية المغربية، بحيث اعتمد حينها الدعوة إلى مشروع سري يتوسل التغيير الجذري، ويرتكز على مقولات فكرية، مثل:التميز والمفاصلة والاستعلاء، ويقوم تنظيمها على السرية، ويفهم من الدعوة مفهوما خاصا يرتبط بأهداف التنظيم ومشروعه(ص25 من الكتاب). ونعتقد أن المراجعة والانعطاف بكل جرأة نحو الرسالية كافية لتجنب كل سيئة زلفها في ذلك السبيل من تراجع عنه، وكافية لتجنب ما يمكن أن يستجد من مثيلاتها. الرسالية تجديد أن يبدأ الأفراد أو الجماعة رساليين، لا يعني استمرار معانيها معهم أبد الآبدين. وأن لا يبدأوا رساليين، لا يعني عدم توبتهم ورجوعهم إليها أصلا وعروة وثيقة. إن الرسالية موضوع يحتاج إلى تيقظ وتجديد ومراقبة مستمرة، حتى تبقى جديدة تتأبى على التقادم وعوامل البِلى، وهو مضمون قوله صلى الله عليه وسلم:يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فوالله إني لأتوب إلى الله عز وجل في اليوم مائة مرة(صحيح الجامع الصغير). والمقصود بالتوبة أصالة، التوبة من بواطن التفكير والاعتقادات والنوايا الرذيئة، والتي إن لم يوقعك الشيطان في ظواهر الإثم المعلنة عن نفسها، جاءك من باب الإفراط والغلو والتشدد، وجاءك من باب البعد عن منهج المرسلين، وأنت تعتقد أنك على طريقهم، إنهم أولئك : الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً(الكهف104:). لذلك كان دعاء الأنبياء طلب الدوام والاستمرار على الرسالية، والبقاء عليها حتى يودعوا دار الدنيا، كقول يوسف عليه السلام:رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ(يوسف101:). والدوام على هذه الرسالية هو الأمر الإلهي إلى الدعاة والصالحين وحاملي إرث النبوة، أن يستمروا على الرسالة والرسالية حتى يغادروا هذه الدار: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(آل عمران102:). خاتمة الرسالية تلكم هي حقيقة الكتاب وجوهره ولبابه، وما عمل على توضيحه من مواضيع: العمل الدعوي والسياسي، والنقابي والجمعوي، والمحن والمسؤولية، والإتقان والفعالية، والنقد والنقض، والعطاء والاسترخاء، والتظيمات الحركية والصوفية، والانفتاح والمشاركة، والفساد والتحالف، والقيم والإباحية، والديمقراطية والاستئصال...إنما هي أمثلة لهذه القاعدة الكبيرة، وتعبير عن مدى القرب من مفهوم الرسالية أو البعد عنها، والاهتمام بأمرها أو عدم إعطاء الاعتبار لها. ويوم يكون لها الحضور بين العاملين للإسلام وهم اليوم عِزين، فقد أعلنوا التوحد على أصل النجاة، وقارب الحياة في الدنيا وبعد الممات. فاللهم حبب لنا الرسالة في جذر قلوبنا، واجعلنا رساليين في أعمالنا، وشكرا لمهندس كتاب الرسالية.