لعل من سمات الخطاب السياسي الإسلامي التي كثر الحديث عنها، هو كونه في كثير من الأحيان خطابا انفعاليا عاطفيا، يؤثر الخطابة على التحليل الموضوعي، ويطغى فيه الحماس على المنطق العقلي. ورغم أهمية إلهاب الحماس في كل عمل سياسي وأهمية تقوية العواطف الإيمانية في كل عمل إسلامي إلا أنه من الضروري أن يكون التفكير العميق هو الموجه للعاطفة، وأن تعرض القضية الإسلامية عرضا مبنيا على الإقناع لا على التأثير النفسي والإثارة الوجدانية. والفرق بين الأمرين كبير من وجوه متعددة : فغلبة الحماس والعاطفة يمنع من التفكير في العواقب واحتساب النتائج، لأنه يسهل الانسياق وراء شعارات حماسية تضبب الرؤية، وتسهل تسويق الإشاعات والشبهات، وتمنع من استخلاص النتائج الموضوعية. وقد يؤدي كل هذا إلى صدام غير مبرر ولا محسوب مع طرف سياسي في الساحة، كما قد يؤدي إلى أن تخوض الحركة الإسلامية معارك سياسية قبل أوانها وأكبر من قدراتها، ولا يبعد أن يتم بعض ذلك بفعل إثارات استدراجية دبرت من خارج الصف الإسلامي. وغلبة الحماس والعاطفة يجعل اتخاذ القرارات أقرب إلى المزاجية والانفعالية منه إلى الاتزان والوعي والنظر البعيد. ويكرس الإعجاب والتعلق بالخطاب المهيج في مقابل استهجان الخطاب المبني على المنطق والحجة. وغلبة الحماس والعاطفة يؤدي إلى استعجال النتائج، وصاحبها يحاول أن يحرض لذلك ويستجيش، بينما التوجيه العقلي والفكري يعمل على إيصال المبادئ والأفكار، وبناء الفرد والمجتمع، والتأثير بالتالي على مهل وفي رفق وهدوء. وطغيان الانفعال والعاطفة يؤدي أيضا إلى النظر إلى الأشخاص والهيئات والأحداث نظرة مجافية للواقع، مبنية إما على المبالغة والتهويل، أو الاحتقار والتهوين، أو على التشويه، فهناك- مثلا- من لا يتصور صدور أمر أو موقف من جهة معينة، فيرفض تصديق أي معلومات تثبت عكس ما كان يتوقعه، وهناك من يسارع إلى إعلان العداء نحو جهة من الجهات- وقد تكون جهة تتبنى مبادئه وأهدافه نفسها لبادرة بدرت أو كلمة صدرت، لم يتحر صاحبنا ليعرف تأويلها الصحيح، ولم يتجشم عناء المرور بمراحل التبين والتثبت، والتماس العذر، والمراجعة...، وكلها أمور ضرورية شرعا ومنطقا في مثل تلك المواقف قبل الانجرار وراء الحماس بإلقاء اللوم وتوجيه التهم. ويؤدي طغيان الانفعال والعاطفة أخيرا - وليس آخرا - إلى غياب العمق الفكري والتحليلي في الخطاب السياسي الإسلامي، ويدخل في ذلك التبسيط أحيانا - إلى حد التسطيح- للصراع الفكري والسياسي الدائر مع الآخرين، ولطبيعة عرض القضية الإسلامية، فتحليل المشكلات المطروحة لا يتم بدراسة متأنية لأسبابها وجذورها وعوامل تطورها، ولتأثيرها في الواقع والحلول لعلاجها، ثم اختيار الحل الأوفق للشرع وللواقع ولتأثيره في الواقع عن وعي وإدراك. لكن يتم ذلك في انفعال وإلقاء للحلول المرتجلة والأحكام الجاهزة. إن كثرة ما جر طغيان الخطاب العاطفي على الممارسة السياسية للحركة الإسلامية من مشكــــــلات يستوجـــــب في رأينا الإســــــراع بأمور ثلاثة : 1- إعطاء الأهمية داخل الحركة الإسلامية للتربية على مبادئ الشرع القاضية بعدم قبول الأخبار إلا بعد روية وتمحيص وتثبيت، وطلب الحجة والبرهان في كل أمر، والتورع عن الاتهام والتجريح، والبعد عن السباب وفحش القول، والتزام الهدوء والتأني في الخطاب... ويبدو أن التركيز على مثل هذه الأمور غير كاف لحد ساعة في البرامج التربوية للحركات الإسلامية، وفي توجيهها لأبنائها. 2- إعطاء الأهمية في المناهج التربوية داخل الصف الإسلامي للتربية المنهجية الفكرية، ولبناء عقليات قادرة على الموازنة والنقد، والتبصر في عواقب الأمور ومآلاتها، ولاكتساب وتنمية المهارات المناسبة لذلك. 3- إعطاء المكانة اللازمة للبحث العلمي والعمل الفكري والدراسات التطبيقية المتخصصة، وتأسيس المراكز الكفيلة بذلك، حتى تكون موجها لحركة الإصلاح الاجتماعي والسياسي بدل خضوعه لردود أفعال وأمزجة، وربما لمعطيات موهومة. 4 ـ وكل هذا لن يتأتى إلا بإعطاء الريادة والقيادة لأصحاب العلم والفكر بدل أهل الخطابة والوعظ ليس انتقاصا من شأن هذين، ولكن إنزالا لهما مكانهما الصحيح، حتى يلجما بلجام العقول، وهي النتيجة التي انتهى إليها الدكتور عبد الله بن فهد النفيسي بعد تحليل مماثل يقول: إن حاجة الحركة الإسلامية لصف من الموجهين الفكريين أكثر إلحاحا من هذا الكم الهائل من الخطباء، مطلوب الاهتمام بإعداد التوجه الفكري، لأنه الحارس الأمين للجبهة الإيديولوجية التي تتحصن بها الحركة؛ . وقد نستدل على ذلك بأسبقية العلم على العمل شرعا وعقلا، كما قال البخاري في صحيحه: باب، العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) .