بمطلع هذا الشهر, شهر أبريل من العام 2008, أصدر مجلس النواب الأمريكي قرارا (لم يصادق عليه مجلس الشيوخ بعد, وغير ملزم للرئيس) تم اعتماده بإجماع أعضاء المجلس, صنف بموجبه اليهود الذين غادروا الدول العربية والإسلامية (إيران تحديدا), بأعقاب الصراع العربي/الإسرائيلي , لاجئين, شأنهم في ذلك شأن باقي لاجئي العالم, الذين تم ترحيلهم عن بلدانهم, أو مورس الضغط عليهم للرحيل, لهذا الاعتبار أو ذاك. يقول منطوق القرار: إن قضية اللاجئين الفلسطينيين حظيت باهتمام كبير من لدن دول العالم, بينما لم يحظ اللاجئون اليهود, الذين خرجوا من الدول العربية والإسلامية, بالقدر نفسه من الاهتمام ... إن إجلاء ما يقرب من 850 ألف يهودي من الدول العربية, منذ إعلان قيام إسرائيل , لا يمكن, حسب القرار, أن يتم التغاضي عنه, بل لا يمكن التوصل إلى سلام شامل بين العرب وإسرائيل, من دون التعامل مع قضية اجتثاث التجمعات اليهودية التي تعود لقرون, في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ودول الخليج . لا, بل يضيف القرار, لن يكون من اللائق أن تعترف واشنطن بحقوق اللاجئين الفلسطينيين, من دون الاعتراف بحقوق مساوية للاجئين اليهود من الدول العربية . لم يكتف القرار بذلك, بل ذهب لحد الإشارة إلى مذكرة التفاهم التي وقعها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر ووزير خارجية إسرائيل موشي دايان في العام 1977, والتي تنص على أن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين واللاجئين اليهود ستبحث حسب القواعد التي يتم الاتفاق عليها . وذهب أيضا لحد استحضار تصريحات الرئيس السابق بيل كلينتون في العام 2000, عندما طالب بإنشاء صندوق دولي للاجئين, وأن يكون هناك صندوق للإسرائيليين الذين حولتهم الحرب إلى لاجئين ...إن إسرائيل, يقول كلينتون, مليئة باليهود الذين عاشوا في دول عربية, وجاءوا إلى إسرائيل بعد أن تحولوا إلى لاجئين في بلدانهم, التي كانوا يعيشون فيها . ولما كان القرار غير ملزم, فقد اكتفى النواب بدعوة الرئيس الأمريكي إلى إصدار تعليماته لمندوبه لدى الأممالمتحدة وكافة ممثلي الولاياتالمتحدة في المحافل الدولية, لكي يقرنوا أي إشارة إلى حقوق اللاجئين الفلسطينيين بإشارة مماثلة إلى حقوق اللاجئين اليهود من الدول العربية, وضرورة الاعتراف بحقوق اليهود اللاجئين من الدول العربية في أي اتفاق للتسوية الشاملة في الشرق الأوسط . ليس من بين ظهراني القرار ما يستوجب التأويل أو استقراء الخلفيات, ففقراته واضحة جلية, ومنطوقه بائن, وتوصياته مباشرة لا تحتمل إعمال الحنكة اللغوية أو النبش في النوايا, لفك شيفرته. بالتالي, فلو تسنى لنا أن نضع ذات القرار بسياقه الأمريكي العام, وبأبعاده وتداعياته الإقليمية الخاصة, لقلنا التالي: + لقلنا أولا, بأن اللوبي الصهيوني هو الذي صاغ مفاصل القرار إياه, وعمل على أن يتزامن ذلك مع حملة انتخابية رئاسية, لا يقتصر دوره بخضمها على تمويل مرشحه بسخاء, بل يشترط مقابل ذلك وعودا قاطعة من حزبه ومن نوابه القادمين, ومن الشريحة الجماهيرية التي لا سبل لبلوغ سدة الحكم دون مغازلتها بالوعود المادية والعملية, كما بالقرارات الرمزية التي بالإمكان البناء عليها بالقادم من أيام. صحيح أن التماهي بين النخب الأمريكية ولوبيات اليهود قائمة منذ مدة وثابتة, لكنها تشتد وتتقوى برحى الاستحقاقات السياسية الكبرى, يكون مردودها على النخب إياها ضمان سبل التمويل وبلوغ مفاصل الدولة, ويكون مردودها للوبيات إياها, بلوغ مصالح محددة, لعل أبرزها على الإطلاق خدمة إسرائيل. + ولقلنا ثانيا, بأن إسرائيل هي التي ثوت خلف ذات القرار بالشكل والجوهر, ووفرت للنواب المعطيات لصياغته, وضغطت بالواضح والمضمر لتبنيه, ودفعت لاستصداره بظل حمى الانتخابات, التي يسهل في خضمها على اللوبيات المنظمة تمرير مطالبها, والدفع بجهة اعتمادها, حتى وإن ناقضت قناعات هذا المرشح أو ذاك. إن إسرائيل, بهذه الجزئية, ليست حليفا لأمريكا فحسب, بل هي جزء من مشاريعها وتصوراتها, لا تستقيم هذه الأخيرة أو تقوم لها قائمة, إذا لم ترض عنها إسرائيل, أو يرتضيها اللوبي الضاغط لفائدتها بالولاياتالمتحدة. + ولقلنا, بالمحصلة, بأن القرار إياه إنما جاء في سياق محادثات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية حول قضايا الحل النهائي, فاصطدمت قطعا بمطلب حق العودة, الذي لا يستطيع مفاوض فلسطيني التنازل عنه, أو التجاوز عليه, أو غض الطرف عنه ضمن هذا الترتيب أو ذاك. إن الولاياتالمتحدة (وهي الراعي والمشرف على المفاوضات الإسرائيلية/الفلسطينية) إنما تريد بهذا القرار الفصل لفائدة إسرائيل, في نقطة تبدو معقدة ومتشابكة وعصية على الحل, نقطة حق عودة الفلسطينيين, التاريخي والشخصي, والمضمون بالقانون الدولي فضلا عن ذلك. وعلى هذا الأساس, فإن قرار مجلس النواب إنما هو محاولة لقطع الطريق على مطلب حق عودة الفلسطينيين إلى بيوتهم وأرضهم, وأيضا محاولة للالتفاف على حق التعويض لمن يتنازل طواعية عن ذات الحق, أو لم يعد له بأرض فلسطين رابط مادي يذكر, بحكم طول مدة اللجوء أو ما سواها. إن حالة ووضعية اليهود, بأعقاب حرب ال 48 ولربما قبلها أيضا, مختلفة تمام الاختلاف عن وضعية الفلسطينيين, بأعقاب ذات الحرب وفيما بعدها: °- فاليهود العرب لم ينكل بهم بأعقاب ال 48, ولم يقسروا على الهجرة, ولم تصادر ممتلكاتهم, لأسباب سياسية أو دينية أو غيرها. إنهم آلوا الرحيل, بسبب من مكر الوكالات اليهودية وبكيد منها, أو بسبب من إغراءات إيديولوجيا أرض الميعاد , أو جراء خوف غير مبرر, من أن تستهدف أرواحهم وأموالهم, وتنتهك حرماتهم...ولم يلحظ من ذلك الشيء الكثير, اللهم إلا حالات انتقام أو ثأر فردية, لا يقاس عليها بالمرة, ولا يعيرها المؤرخون كبير قيمة. في حين أن الفلسطينيين هجروا قسرا, ورتبت لذلك ضدهم المجازر والمذابح, وصودرت بيوتهم وممتلكاتهم, ودفع بهم دفعا للرحيل عن بلداتهم, ونكل بهم وهم في طريقهم للمنافي المجاورة حيث الملجأ, أو ببلدان أبعد حيث الشتات. إنهم لم يخيروا, بل أجبروا, لم يوعدوا بل كتب عليهم الوعد , فطاولهم ظلما وجورا. إنهم لم يختاروا, بل أجبروا على اختيار المر. كيف للنواب الأمريكان من هنا, أن يصنفوا نكبتهم مع بعض آلاف من اليهود, رحلوا عن أوطانهم بمحض إرادتهم, إما تطلعا لمصلحة, أو جراء وعد ديني , أو على خلفية من ادعاء كاذب أو مبالغ فيه, بأنهم باتوا مكمن اضطهاد؟ °- واليهود العرب لم يحل دونهم ودون زيارة أوطانهم/الأصل حائل, بل الآلاف منهم يتقاطرون بانتظام عليها لزيارة أهل لهم لم يهاجروا, أو لتفقد أماكن عباداتهم, أو لاسترجاع ذكريات لهم مع العرب الجيران. في حين أن لا حق لفلسطيني في زيارة بلدته, أو الاستخبار عن مآل منزله, أو إحياء أواصر القربى مع أهل له وذويه, تم تهجيره عنهم قسرا ودونما موجب حق يذكر. لا, بل إن اليهود العرب, إن هم أعملوا حقهم في العودة , ما اعترض على ذلك معترض على الإطلاق, هم المتنفذون بكل مفاصل الدولة العربية , والقادرين على توجيه أولي الأمر بها من عن بعد. كيف للنواب الأمريكان, على هذا الأساس, أن يقرنوا ويقارنوا بين حالتين متعارضتين لدرجة التنافر المطلق؟ ثم إنه لم تكن ثمة عداوة بين اليهود وأبناء جلدتهم, بالأوطان حيث كانوا يعيشون مجتمعين من قبل ال 48 وبأعقابها, بل ولآلاف السنين من قبل ذلك. بل كانوا متعايشين, ولا يزال العديد من اليهود ببلدانهم/الأصل, بالمغرب العربي وبالخليج وبإيران, يعيشون دونما نغص في العيش, أو تضييق من لدن هذه الجهة أو تلك. هم ليسوا بحاجة للدفع بحق في العودة, إن الحق إياه لم يسقط عنهم بالأساس (إلا فيما ندر), وبإمكانهم العودة حيثما شاءوا, ومتى ما شاءوا, دونما ممانعة من أحد أو تمنع. إننا لسنا ضد الحق في عودتهم, إننا مع ضمان حق العودة للفلسطينيين أيضا, على الأقل من منطلق تساوي الحقوق, منطلق أن يكون لكلا الطرفين اللاجئين نفس الحقوق, دونما زيادة هنا أو نقصان هناك. إن الذي يهم اليهود من هذا القرار, قرار مجلس النواب الأمريكي, ليس الاعتراف لهم بحق في العودة, هم يدركون جيدا أنه بمتناول أيديهم, متى عن لهم تفعيله فعلوه. إنهم يريدون التعويضات, تعويضات ما استصدر منهم من أملاك , لن تعدمهم الحيلة في تضخيمها إلى أقصى حد, وإعمالها للابتزاز, هم الخبراء في ابتزاز الدول والشعوب, للحصول على الغنائم وطمس الحقائق, والظهور بمظهر الضحية دائما. إن لله في خلقه لليهود, شؤون وأسرار.