أكثر التحليلات والقراءات للوضع الاجتماعي بالمغرب تخلص إلى نتيجة مفادها أن عدد من الظواهر الخطيرة على المجتمع، كالإجرام والإرهاب والتطرف والعزوف عن الانخراط في تسيير الشأن العام ترتبط برباط وثيق بشيء أساسي هو الفقر، ليس وحده وإنما هو من الجذور الأساسية لعدد من المعضلات، وعندما رحلت حكومة جطو وأتت حكومة عباس الفاسي، كان من الانتقادات الأساسية لحصيلتها أنها لم تفعل الشيء الكثير لتجاوز الخصاص الاجتماعي، والمجسد على وجه الخصوص في الفقر والهشاشة والإقصاء التي تعيش فيها مئات الآلاف من المواطنين. في هذا الملف تتطرق التجديد إلى موضوع الفقر، وتتساءل حول كيف تعيش الأسر الفقيرة والمعرضة للفقر وتكابد من أجل العيش في ظل ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية والخدمات الأساسية، وفي هذا الصدد يتضمن الملف الأسبوعي ربورتاج ينقل يوميات 5 أسر فقيرة بالدار البيضاءوالجديدة وتمارة والمحمدية. كما يجد القارئ معطيات رقمية حول خريطة الفقر في المغرب، مع التمييز بين الموجودين تحت عتبة الفقر، وبين المعرضين للفقر (وضعية الهشاشة)، وفي حوار يصرح رضوان زهرو رئيس وحدة الاقتصاد الاجتماعي والتنمية المستدامة بكلية الحقوق بالمحمدية أن الفقر مشكل بنيوي ارتبط بإخفاقات مخططات التنمية. وتستعرض >التجديدش ضمن الملف ثلاثة قضايا تعد من المظاهر الناتج عن واقع الفقر، وهي زيادة معدل البطالة، وانتشار السكن غير اللائق (دور الصفيح)، وظاهرة التسول وأطفال الشوارع... فقــراء يكابـدون مـن أجـل العيـش مكابدة من أجل البقاء وإن كان على الهامش، وبحث عن قوت اليوم بصعوبة، ومساكن ليس لها من وظيفة السكن سوى الوقاية من المطر والشمس وأخرى قصديرية أو براريك لا تؤدي هذه المهمة، تلك هي بعض مظاهر الفقر التي تتوسع مساحتها يوما بعد يوم، وتتخذ أشكالا متنوعة وتتباين حدتها من أسرة لأخرى، وحي لآخر، ومدينة لأخرى. أسر وجبتها الأساسية الخبز والشاي، وطفولة تنطق وجوهها بالحرمان، وشباب سدت أمامه طريق التعليم وفتحت أبواب أخرى نحو المجهول!. إنها الهشاشة والفقر والحرمان. ضنك تعطي أسرة (م -ع) مثالا واضحا على ضنك العيش وقسوة الظروف، فالأسرة المؤلفة من 4 أبناء تسكن بغرفة كانت في الأصل مرحاضا عموميا، قبل أن تسمح له الجماعة الحضرية التي يشتغل بها حارسا أن يستغلها سكنا بعد إدخال بعض الإصلاحات عليها. الغرفة توحي ملامح شكلها الخارجية على مظاهر حياة قاسية، فرغم أن رب هذه الأسرة حاول أن يغطي ملامح المرحاض بإدخال بعض الإصلاحات الطفيفة في البناء الداخلي، حتى يخفي صورتها الحقيقة، إلى أن الشكل الخارجي لم يسمح بمحو هذه الصورة العامة للمرحاض ومنحه صورة سكن بمواصفات تريحه على الأقل نفسيا. وتجعله محط تقبل من قبل أبنائه وعائلته. التي تتحرج عن زيارته بهذا المكان. يعتمد (م ـ ع) في إعالة الأسرة على راتب لا يتعدى 100 درهم في الشهر، بالكاد يؤمن المستلزمات الضرورية للعائلة. يسرد ( م ـ ع) معاناة الأسرة بلغة يسيطر عليها اليأس، حيث لم تسعفه حالة الفقر على توفير بيت لائق لأبنائه الأربعة الذي أصبحوا شبابا يافعين. يقول والد الأسرة أن قوت العائلة يعتمد بالدرجة الأولى على مادتي الخبز والشاي وما تجود به أنفس أهل الخير، مدللا على الواقع الاقتصادي المنعدم بإجبار ابنه على ترك الدراسة للعمل بورش للنجارة، في ظل العجز عن توفير متطلبات تعليم أبنائه الأربعة من رسوم ونفقات أخرى. فيما يلتزم أقاربه بدفع نفقات الدراسة من رسوم ومصاريف للبقية الذين يضطر بعضهم (الأولاد) على انتعال أحذية النساء عند ذهابهم للدراسة. وأكد أن هذا الدخل الثابت الذي يتقاضاه لايكفي لمصاريف ونفقات الأكل والتنقل للعمل. خبز وشاي.. أكلة أساسية أسرة خديجة محب الادريسي تلقفتها خيمة على قارعة الطريق، بما يعطي إشارات التشبث بملامح سكن لأسرة لم تنصفها الظروف لتتصالح مع زمنها الغادر، وهناك داخل خيمتها يمكنك أن تتخيل الصورة الكاملة بكل تفاصيلها، فعناصر الصورة اليومية وأثاث المعيش هناك ذباب ينافس الأطفال في الحيز الضيق، أفرشة رثة متراكمة.. بقايا أقمشة تختلط ألوانها تسد بها ما تحدث العواصف من ثقوب في الخيمة، ربما يتطلب التعرف على المشهد الظاهر على سطح الأوضاع، الوقوف مع بعض تفاصيل ظروف معيش هذه الأسرة، ترويها خديجة محب بلغة العافية، رغم كل شيء، زوجها مصاب بشلل نصفي أقعده عن العمل، فانبرت لتكون هي المعيلة لستة أبناء أكبرهم يبلغ من العمر 21 عاما، وأصغرهم له من العمر عامين ونصف، تقول خديجة محب أنها تعتمد في إعالة أسرتها على راتب لا يتجاوز 30 درهم إلى 40 درهم في اليوم، والمأكل لا يتعدى أشياء بسيطة.. الخبز والشاي باعتبارهما من أساسيات التغذية، ثم بعض المستلزمات الضرورية للتصبين وقنينة الغاز.. ثم ما يتبقى من المبلغ لتدبير بعض المصاريف الأخرى المتعلقة بشراء الخضر بين الفينة والأخرى، أما اللحم فيتوقف تدبيره على ما يجود به أهل الخير. أحيانا تأتي ببقايا الأكل من المنازل التي تشتغل بها، وأحيانا يكون تضامن الجيران كفيل بتوفير ذلك. أما كسوة الأبناء والكتب المدرسية، فتضمنها جمعية خيرية محلية. أما الحالات الطارئة مثل المرض أو شراء دواء...فهي خارج الحساب، وتدبيرها رهين بالظروف التي تأتي فيها. هم الخبز اليومي هو الذي يحرك خديجة ويشغل بالها، تبدأ يومها وعينها على نهايته بسلام، ما تخشاه هو أن لا تجد عملا يكفيها اجترار واقعها حسرة بالبيت، وتكره أن تتكرر أيام فصل الشتاء عندما تنقص وثيرة العمل، في فصل الصيف يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لمهنتها، ففي أيام الصيف ينتعش عملها بالبيوت رغم إكراهاته، وأي مبلغ تحصل عليه من عملها يكون بالنسبة إليها أحسن من لا شيء. مساحة للعيش لم يكن عبد الرحيم قادرا على فراق قريته بـ إقليمالجديدة التي ظل والده يخيره وإخوته بين سخط هجرتها ورضا العيش بها بكل تفاصيل العيش التي توفرها، ظل هذا الخيار يقيده ويجعله في منأى عن التفكير بمغادرتها، صوب المدينة لاستبدال واقع الفقرالذي يطوق رقبته، لم تكن له أرض يشده ترابها أو حرث ينتظر ثماره، ولكن بين هذا وذاك كان أجيرا في أراضي زراعية بأجر زهيد، ولكنه لا مناص له من النضال لرعاية أمل والده الذي يتنفسه بين أحضانها. كثر عياله وفاقت مصاريف عيشه أجره، يقضي النهار كله منحنيا يقطف المحاصيل، ويتتبع ثمارها وسط هكتارات ينقطع نفسه وهو يتتبعها. لكن هي وحدها الدراهم المعدودة التي يتقاضاها، تأبى أن تتمدد وتكبر مع كبر مساحة المحاصيل التي تتضاعف يوما بعد يوم. لكن لا مفر الواقع عليه أن يقبل به، وأن يخلق لنفسه حيزا يسمح له بالعيش رغم كل شيء، وأن يوفر نوعا من الإحساس برفاهية العيش وإن كان بمواصفقات خاصة. يتقاضى مبلغ يتراوح ما بين 30 و50 درهم، له 6 أبناء، بما أنه لن يطلب مغادرتهم للدراسة، لكي يحملوا معه ثقل فقره. فقد قرر أن يجعل من هذا المبلغ سبيله للعيش وأسرته رغم كل شيء، بعض ما تجود به أراضي مستخدميه من فواكه وخضروات، تعينه على الاستمرارفي مخططه، اللحم عود أبناءه على أن لا يكون لهم معه موعد إلا يوم السوق الأسبوعي، الملابس المستعملة تغزو السوق ونصيبهم منها محفوظ بين الفينة والأخرى، البيت يحتل فيه الشاي المغربي مكانة أساسية، وفي ساعات الأزمة يكون السيد الذي لا يرد لتوفيره طلب. التقسيط في المواد الغذائية يخفف ثقل أسعارها المرتفعة.. أما السلف فهو كفيل لإظهار الكرم المغربي ولو كان يقصم الظهر..والله المستعان على ما تبقى، ولكل يوم رزقه..ولكل ظرف مخرجه..هذه لغة العافية التي يحيا بها هذا الرجل القروي..إلى أن يتمكن من تهريب أولاده لبحبوحة من العيش قد يكفلها لهم تفوقهم في دراستهم، لهذه الغاية يكابد عبد الرحيم قساوة عيش حاضر، لعل مستقبله ينفتح على مساحة أفضل لن يكون خبزا مرا. السلام المعيشي بدا لها أن العيش البسيط مقدور عليه، كما أن عزم البداية، بنية الكفاح، سيكفل لأسرتها السلام المعيشي، طالما أن حسن التدبير لراتب قار، وإن كان بسيطا لا يتجاوز 1000 درهم، قد يمنح نفس الاستمرار لأسرتها، لكن بأمل تبدل الحال مع الأيام، فكم من أسرة بدأت مثل بدايتها، وانتعشت أيامها مع فسح الزمن التي تنفتح بين الفينة والأخرى، وإلى ذلك الحين، فبساطة العيش مع راحة البال كنز الفقير الذي يمنحه القوة على العيش، ومن أحسن الظن بالأيام تجازيه، هذا ما كان يؤطر واقع أسرة (ف-ح) بتمارة، ظنت أن ما يحصل عليه زوجها بعد سعي يومه، يمكن أن ييسر الحياة ولو كانت بسيطة، قد يتضاعف الدخل مع الأيام. مرت أيام بل أعوام.. لكن من دون أن يواكب الزيادة في العمر والأولاد، زيادة في مدخوله.. أليس للأيام منطق! لكن الذي لم تحسب له أسرة (ف - ح) الحساب، أن يتوقف هذا الراتب أيضا، أصبح الصيام سمة الأسرة الأساسية، إلا من قوت المغاربة المعتاد، بل وصل الحال إلى محنة في تدبيره أيضا، لكنه استسلم أخيرا بعدما أعياه البحث عن العمل، ولم يكن مهرب من التدخل لإنقاذ أسرته، ولو كان ما هداه إليه تفكيره قاسيا على قلبه. لم يستسغ رب الأسرة رؤية أولاده الأربعة وهم يتدورون جوعا، توسل الأمان عند الجدة ليمنحها ابنه الأول للتكفل به، ثم ليجد نفسه يخوض في المسار ذاته، وهو يوقع على تبني ابنه الثاني لأسرة تتلهف لحركة الأولاد في بيتها، واقتنع بما تجود به هذه الأسرة والعائلة، للاستمرار في تربية ابنين آخرين، ومكابدة حياة بطعم مر.