من نعم الله تعالى على بني آدم أن كرمهم وعلمهم البيان خلق الإنسان علمه البيان فاللسان المبين هو الكفيل بالإبانة عن الحق والإرشاد إليه وتحريك وتجييش العواطف في سبيله واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي وهو وسيلة كذلك لتفجير ينبوع العواطف والمشاعر والخلجات وأخذ الألباب وسحرها إن من البيان لسحرا وقد جعل الله سبحانه اختلاف الألسنة من آياته ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم وللسان العرب زيادة فخر على باقي الألسنة حيث اختاره الله سبحانه وتعالى لآخر كتبه القرآن فكتب للعربية بذلك الخلود في الدنيا والآخرة لأنها لسان أهل الجنة. هذا اللسان العربي عاش سنوات عجاف ولا يزال وأسباب ذلك كثيرة متنوعة منها: الذاتي : حيث هانت العربية بهوان أهلها ووهنت لغثائيتهم، ولولا القرآن لكانت إلى البوار والزوال والاندثار أقرب. والموضوعي : وهو تفنن العدو الإد في محاولة اجتثاث الأمة من جذورها ومسخ وطمس هويتها الحضارية بشتى الوسائل والسبل المتطورة والمتجددة ومنها استهداف لسانهم الحاضن للذاكرة الحضارية، في غياب مدافعة مماثلة إلا من طائفة قليلة العدد والعدة ما تزال وستبقى إن شاء الله مرابطة لا يضرها من خالفها. لقد نجح المستعمر ـ نسبيا ـ بل المستخرب في إحداث قطيعة بين حاضر الأمة وماضيها التليد حين كان محتلا للأوطان العربية والإسلامية وقبل رحيله باض وفرخ وعشش وكبرت الفراخ فهي اليوم تنعق وتهرف بما لا تعرف في سبيل إزاحة العربية والتشويش على كفاءة اللسان العربي في مسايرة العلوم الحديثة. إن إعادة المجد التليد للساننا يحتاج إلى عزيمةٍ حَذَّاءَ مَاضِيَةٍ من قوى الممانعة والمدافعة ممثلة في الحركة الإسلامية لتحقيق أهداف مرسومة منها : 1. التمكين للقرآن الكريم ففي التمكين له كما يقول الأستاذ الشاهد البوشيخي تمكين للروح التي تعيد للأمة ازدهارها وللعربية سلطانها وهذا الأمر أوضح وأبين من أن نخوض فيه. 2. تمكين الصغار من مصاحبة النصوص العربية الفصيحة شعرا ونثرا، فالغد الأحسن يزرع في وقت مبكر، وإنه لمن الخطل والخبل والتبجح أن نرى الآباء يتهافتون ويتنافسون في إيداع الصغار المدارس التي تلقن الألسنة الأجنبية في سن مبكرة، فنجني بذلك على أكبادنا ونمسخ مستقبلنا ثم يبحث بعد عن مصدر الأدواء. أليس هذا الشافعي وضعته أمه مع قبيلة هذيل فتعلم الفصاحة والبلاغة حتى أصبح حجة في العربية وهذا الأصمعي على جلالته قرأ عليه أشعار الهذليين، وترى أحدنا اليوم ينشأ صغاره ولا يعرفون حسان والجاحظ والمتنبي وأبي حيان والمعري والبارودي والرافعي وشاكر والأميري، فمن أين يأخذون الفصاحة والبيان إن الديك الفصيح يعلم الصياح والفصاحة في بيضته. إن اكتساب الفرنسية أو غيرها ميسور فتحصيلها يكون في ستة أشهر إلى ثلاث سنوات لأننا نتعلمها لدراسة العلوم والتواصل ولا ندرس حضارتها إلا أن المتخصص يحتاج إلى وقت أكثر من ذلك لأنه يتعلم حينئذ الحضارة والأدب والتاريخ. 3. إيجاد أئمة علماء يقتدى بهم ويسمع لقولهم لأن القوي يسمع له الجميع، ويكون عملهم مثل عمل أولئك الخمسة الذين ما فتئ الأديب الراحل العلامة محمود محمد شاكر يدندن حول علمهم وأعمالهم وانجازاتهم وهم: أ- عبد القادر بن عمر البغدادي (0301 هـ- 3901 هـ): الذي عرف ضعف أهل زمانه وهجرهم لشعر الفحول وأخبارهم وتاريخهم فعمد إلى ما في كتب النحو التي يعرفونها من شواهد الشعر العربي القديم جاهليه وإسلاميه، فألف ثلاثة كتب تدور كلها على شرح شواهد الشعر، وضمنها روائع الشعر وأخبار الشعراء ونوادر التاريخ فكان ذلك مقدمة لبعث التراث الأدبي وإحيائه ووضعه بين أيدي الناس. ب- المرتضى الزبيدي (5411 هـ/ 5021 هـ) : كان الزبيدي محيطا بعلوم كثيرة، فكثر عليه طلبة العلم، وأدرك ضعف ما بأيديهم من كتب العربية، فأراد أن يضع تحت أيديهم كتابا جامعا في اللغة فألف معجمه الكبير تاج العروس وهو شرح لقاموس الفيروزبادي، جمع فيه ما تفرق في الكتب وأشار فيه إلى كثير من دواوين الشعر المحفوظة في المكاتب، فذاع صيته وطارت شهرته في الآفاق ووفدت عليه الوفود من بلاد الإسلام كلها، وكاتبه العلماء والملوك من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والعراق والمغرب والجزائر والسودان، فكان تأليفه وكانت دروسه بعثا للتراث اللغوي والديني وإحياء لما خفى منه على الناس. ج- ابن عبد الوهاب (5111 هـ/6021 هـ) : والذي انقسم الناس في أمره بين مؤيد له لصواب ما أتى به ومعارض له لمناقضته الإلف الذي ألفوه وكاد العالم الإسلامي كله يتحرك ويندمج بعضه في بعض بكل تراثه الضخم، وبكل مواريث حضارته العظيمة، لكن كان قدر الله اغلب، وحصرت اليقظة الإسلامية كلها بلا معين، لان مغول العصر الحديث وتتره كانوا أكثر يقظة وأوضح هدفا وأسرع حركة وأغنى غنى وأقدر على النهب والسلب والفتك والتدمير وفي أيديهم دستور حضارتهم الذي وضعه الخبيث مكيافيلي ينير لهم طريق العمل. د- الشوكاني (3711 هـ / 0521 هـ) : والذي ثار على التقليد وشدد علي التزام عقيدة السلف وذهب في بيانه مذهب الحافظ ابن عبد البر حيث قال : التقليد غير الإتباع لأن الإتباع هو أن تتبع قول القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه، والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه ولا تعرف وجه القول ولا معناه، وتأبى سواه وإن تبين لك خطؤه فتتبعه مخافة خلافه وأنت قد بان لك فساد قوله، فكان قيام الشوكاني في محيط الشيعة الزيدية صبحا جديدا يوشك أن يهز قواعد التعصب الذي درج عليه أصحاب المذاهب من أهل السنة فضلا عن أتباع الفرق المختلفة. هـ- الجبرتي الكبير (0111 هـ / 8811 هـ) : والذي أفرد له محمود شاكر مقالا خاصا به في مجلة الهلال عنونه بالفقيه الجليل ورموز التكنولوجيا جلى فيه دور الجبرتي في إحياء تراث الأمة وفك رموزه بعد تلك النكبات المتتالية من غزو صليبي إلى غزوة تتري ثم سقوط الأندلس فكان أن هب الجبرتي وهو في الرابعة والثلاثين من عمره وانتبه عقله المتوقد بعد غفوة طويلة فانبرى لهدفه بكل ما في قلبه من همة ودأب وذكاء وآثر أن يقضي عشر سنوات من 4411 هـ إلى 4511 متلددا متحيرا يحاول أن يفك رموز جزء يسير من ميراثه الضخم حتى انفتح له الباب وانكشف عنه الحجاب كما يقول ابنه المؤرخ العظيم في عبارة غير كاشفة إلا عن دهشة وحيرة (الحديث عن الأعلام الخمسة منقول بتعرف يسير من كتاب جمهرة مقالات محمود محمد شاكر ص 1021 ـ 4121). إن جعل هؤلاء الخمسة ـ وغيرهم كثير ـ قدوة يحتذون في أعمالهم وانجازاتهم كفيل لا محالة بإعادة المجد البائد للحضارة العربية والإسلامية وبأن يرجع للسان العربي سلطانه. وأضيف لأولئك الخمسة سادسا وهو محمود محمد شاكر ذاك الرجل الأديب العلامة وحيد دهره والذي قاد حربا حامية الوطيس في منتصف القرن الماضي سلاحها القلم ضد دعاة العامية وغيرهم من المستغربين والمستشرقين رجع منها منتصرا شامخا، والكل معترف له بأياديه البيضاء على التراث تحقيقا ونقدا وتجديدا وقد خلف وراءه تلامذة ما يزالون ينافحون ويدافعون نصرة للسان العربي. 4. التمكين للعربية في الإعلام ولا حديث هنا عن الإعلام الرسمي، لأن التغيير في المؤسسات الرسمية نتركه للسياسيين وحراكهم لإصدار قرارات وتشريعات تمكن للعربية. أما حديثنا فدائر في دائرة المتاح وماهو بأيدينا لا بأيدي غيرنا فأغلب الصحفيين إلا قليلا تجد في قلمه ولسانه عجمة وهجنة ولكنة ولحنا، وتمكن الإعلاميين في وسائلهم المختلفة من اللسان العربي المبين وكتابة تحليلاتهم ومقالاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والرياضية وتقديمها بأسلوب بياني رفيع كفيل بإحداث نقلة نوعية في إعادة التمكين للساننا العربي، وأول التغيير يبدأ قطرا ثم ينهمر. وإذا أضفنا إلى ما تقدم مقترحات شيخنا وأستاذنا أحمد الريسوني يكون جزء من الإصلاح قد اكتمل والله اعلم.