في الحوار الذي أجرته معه جريدة التجديد ( 8 يناير 2008 ) صرح الدكتور طارق رمضان بأنه منع في فرنسا من إلقاء ثلاثة وعشرين محاضرة ، وعن سبب المنع قال في فرنسا حرية التعبير ممنوعة عن بعض الأشخاص . طبعا هذا التصريح ليس عاديا لعدة اعتبارات : أولا لأن صاحبه مفكر أوروبي مرموق، معروف في الأوساط الأكاديمية بفكره الوسطي والتنويري، منطلقا في ذلك من قراءة حضارية معمقة للفكر الإسلامي وللحضارة الإسلامية . ثانيا :لأنه أوروبي المولد والنشأة والثقافة، يصدق عليه المثل القائل : وشهد شاهد من أهلها. ثالثا : لأن هذا التصريح يستوجب إعادة النظر في المقولة المقدسة عند بعض إخواننا العلمانيين والحداثيين، مفادها أن حرية التعبير مطلقة في الغرب، وما علينا إلا أن نحذو حذوه،شبرا بشبر، وذراعا بذراع، إذا أردنا لمجتمعاتنا الرقي والتقدم والنهضة .وتثار هذه المقولة كلما وقع احتجاج من داخل المجتمع وقواه الحية ضد سلوكات ناشزة عن الذوق الوطني وقيم الشعب والضمير الجمعي للأمة ،كاستنكار ورود لقطات جنسية فاضحة ومخلة بالحياء العام في بعض الأفلام السينمائية أو الدعوة إلى التطبيع مع الشذوذ أو التركيز في مجالات الإبداع على الجنس ولا شيء غير الجنس في أشد صوره ابتذالا... الحجة هنا جاهزة : لا تقدم بدون حرية، والغرب لم يتقدم إلا بها، ولا حل عندنا إلا بسلوك نفس الطريق. صحيح أن الحرية هي عماد الديموقراطية، غير أن إشكالية حرية التعبير أعقد من ذلك بكثير، حيث لا تنفع معها الحلول السهلة مثل الإدانة المطلقة أو التبني المطلق . ويظهر من تتبع التجربة الغربية بأن الدكتور طارق رمضان لم يكن أول من منع من إلقاء المحاضرات في فرنسا ولن يكون الأخير، وما تعرض له يعتبر خفيفا إذا ما قورن بما تعرض له مفكرون آخرون حوكموا بسبب آرائهم وأفكارهم وكتاباتهم، وهذا الأمر لا يقتصر على فرنسا وحدها بل يشمل غالبية دول الغرب ( أوروبا وأمريكا وكندا). وأنواع القيود المفروضة على حرية التعبير هناك متعددة الأشكال، منها قيود مباشرة عن طريق التدخل بواسطة السلطة القضائية ، و الأمثلة لاحصر لها، نذكر مثلا القانون البريطاني الذي يمنع إهانة المقدسات، وبموجبه تم منع عرض فيلم الحياة الجنسية للمسيح للمخرج الدانمركي جينز تورسن، الذي ما إن تم الإعلان عنه حتى قامت ردة فعل غاضبة من المؤسسات الدينية الأوروبية، وصدر تحذير مباشر ضد الفيلم من رئيس الوزراء البريطاني آنذاك جيمس كالاهان، وفي النهاية تراجع المخرج، ولم ير فيلمه النور إلى اليوم . وفي فرنسا صدر قانون فابيوس-جيسو الذي يحظر مجرد مناقشة حقيقة وقوع الهولوكست خلال الحرب العالمية الثانية، وبمقتضاه تمت محاكمة المفكر روجيه كارودي سنة 8991 بسبب كتابه الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية . أما المؤرخ المشهور برنارد لويس فقد تم تغريمه سنة 5991 بمبلغ 01 آلاف فرنك فرنسي لا لشيء سوى أنه أنكر تعرض الأرمن لإبادة جماعية على يد الأتراك في بداية القرن العشرين، مع أنه أستاذ جامعي، ومؤرخ أكاديمي أفنى حياته في البحث العلمي في مجال تخصصه الدقيق الذي هو تاريخ الدولة العثمانية. في نفس السياق نذكر بالمنع الذي طال عرض الأفلام الوثائقية التي أعدها الصحفي الشهير روبرت فيسك بالولايات المتحدةالأمريكية تحت عنوان جذور غضب المسلمين ، رغم أنه حصل على جائزة أحسن صحفي بريطاني لسنة 5991. الوجه الآخر لتقييد حرية التعبير في الغرب يمارسه المجتمع من تلقاء نفسه، فكثيرا من دور العرض بالولايات المتحدةالأمريكية ترفض عرض الأفلام المصنفة للكبار فقط أي تلك التي تحوي مشاهد جنسية فاضحة وكثير من الصحف ترفض الإعلان عنها ، مما يدفع مخرجي هذه الأفلام لحذف تلك المشاهد المرفوضة من قبل المجتمع ، فبالرغم من أن القانون لا يحظر تلك الأفلام إلا أن المجتمع تحرك بأسلوبه هو للتضييق عليها ، حتى إن كثيرا من صالات العرض رفضت عرض فيلم الإغراء الأخير للمسيح بسبب ضغوط الكنائس والمنظمات الدينية ، ووصل الأمر بجمهور المتدينين أن حاصروا بعض الدور التي جازفت بعرضه لمنع المشاهدين من الدخول. وليس مستغربا ولا ممنوعا أن تنشأ هناك منظمات بهدف مواجهة نوع من أنواع التعبير مثل منظمة الغالبية الأخلاقية ، و الاتحاد الفيدرالي للخلق القويم ، ومنظمة الدقة في البحث الأكاديمي التي تحارب الأفكار اليسارية لدى أساتذة الجامعات الأمريكية . نخلص مما سبق إلى أن حرية التعبير مثلها مثل حقوق الإنسان الأخرى - لا يمكن أن تكون مطلقة بلا ضوابط وبلا مسئولية، لأن الحرية المطلقة لكل أنواع التعبير تعني حرية مطلقة للكتابات العدوانية، والألفاظ الجارحة، في حق الأشخاص، والجماعات، والقيم المشتركة ، ونتيجة ذلك هو انتشار الفوضى داخل المجتمع . مع التأكيد على أن القيود ـ أية قيود ـ يجب أن تكون هي الاستثناء وليس الأصل.