إن الحديث عن هيئة الإنصاف والمصالحة أصبح حديثا مشاعا وذي شجون يعبر بصدق عن عمق وقع الحدث والتجربة وأهميتها من ناحية الإقرار الفعلي لحقوق الإنسان ورغبة أكيدة لتبني دولة الحق والقانون.. أن تشاع المعرفة الحقوقية كمرحلة للترقية أمر يحبذه كل مهتم، ولكن أن يشاع الخطأ إلى درجة التمييع لا يمكن السكوت عليه لأن الساكت على الحق شيطان أخرص. إن تجربة الهيئة فكرة رائدة ومتميزة سجل المغرب فيها تحولا نوعيا لم يتأت لأي نظام عربي التمثل بها ولا يمكنه ذلك إلا في إطار إقرار حقيقي لحقوق الإنسان، إلا أن الحديث عن التجربة من حيث إيجابياتها وسلبياتها أمر لا ينقص من ريادة الفكرة التي تشكل تميزا في التعامل مع حقوق الإنسان. كنت أتطلع بشغف إلى برنامج الاتجاه المعاكس لقناة الجزيرة يوم الثلاثاء الأخير الذي أذيع على الساعة السابعة مساءا لأستقي من الباحث في الشأن المغربي معلومات وأرقاما وأحداثا وإحالات قانونية وحقوقية تنم عن معرفة حقيقية بحقوق الإنسان وبالشأن المغاربي إلا أن الرجل كان بعيدا عن الموضوعية والعلمية وأعجبته القناة ليستهل الحديث بآيات بينات للقرآن الكريم لا علاقة لها بموضوع الإنصاف والمصالحة واختصاصات الهيئة مثل استشهاده: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، لينتقل إلى الحديث عن المعطلين وكسر جماجمهم وكلمات معسولة لا تتوفر على قيد أنمولة من العلمية في تقييم التجربة. إن التقييم يقتضي المعرفة والإطلاع وليس إطلاق العنان لكلمات تلوكها الألسن بالتجريح بعيدا عن القيم الأخلاقية والأمانة العلمية. إن المرحلة المراد التحقيق فيها هي من 1959 إلي 1999 وهي مرحلة قبل تولي جلالة الملك محمد السادس العرش، ليِؤكد أن زمن الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، الذي لا يتحمل فيه جلالته أي مسؤولية، قد ولى وليسجل التاريخ إقرار النظام بوقوع تجاوزات في الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي. ويعد هذا الإقرار ضمانة أساسية لاحترام الحرية الفردية لكي لا يسجل المستقبل أي تجاوز من هذا القبيل، كما أن هذا الإقرار هو كذلك تعهد من سلطة الإشراف وأمر مولوي لا يمكن عدم الانصياع إليه ليطمئن المواطن من شطط ومعاناة الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، وهو أيضا إدانة صريحة للماضي، الذي لا يتحمل فيه العهد الجديد أي مسؤولية. إن حديث الباحث في برنامج الجزيرة عن المعطلين وكسر جماجمهم هو من صميم انشغال الحقوقيين، ولكن اختصاص الهيئة من الناحية القانونية لا يتجاوز ما حدد لها قانونا، إذ أن الانتهاكات الجسيمة تعني فقط بالاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، واختصاصات الهيئة هي غير قضائية ولا تثير المسؤولية الفردية عن الانتهاكات وتتولى الوقوف على مسؤوليات أجهزة الدولة أو غيرها في الانتهاكات والوقائع موضوع التحريات. ولا يمنح القانون أي سلطة إلزامية لإجبار المسؤولين على التعاون، وعلى كافة السلطات العمومية والمؤسسات العامة أن تعمل على التعاون معها وتمكنها من كل المعلومات والمعطيات الكفيلة بإنجاز مهامها. إنها المعالم الرئيسية لعمل الهيئة المحددة بمقتضى القانون، فالحديث عن الحقوق الاجتماعية وتكسير جماجم العاطلين من قبيل المزايدة فقط وتحليل بعيد عن مناقشة صلب اختصاص الهيئة والنتائج المتوخاة من ما بعد هيئة الإنصاف والمصالحة. ما بعد هيئة الإنصاف والمصالحة تمخض عن عمل الهيئة مجموعة من التوصيات أهمها أن يقدم اعتذار رسمي أمام البرلمان باسم الحكومة والتأكيد على احترام حقوق الإنسان دستوريا ودعم التأصيل الدستوري لها والتأكيد على دستورية الحريات بالتنصيص عليها دستوريا وعلى مبدأ فصل السلط وعدم تدخل السلطة التنفيذية في السلطة القضائية، بالإضافة إلى ضمان مبدأ عدم الإفلات من العقاب وتوطيد دولة الحق والقانون وتقوية ضمانات حقوق الإنسان في المجال القانوني وإقرار أشكال إضافية أخرى لجبر الضرر.. إن الحديث عن ما بعد هيئة الإنصاف والمصالحة محطة شغلت ومازالت تشغل اهتمام كل الفاعلين السياسيين والحقوقيين وعامة الناس وشكلت تخوفات بعض المنظمات منها منظمة منظمة العفو الدولية وأومان رايت واتش التي أكدت في إحدى تقاريرها أن الحريات التي تمتع بها المغاربة خلال 51 سنة الماضية مهددة ومخاطر الحملة التي قادتها مختلف الأجهزة الأمنية بعد أحداث 61 ماي المفجعة كبيرة ليس فقط على أولائك المشتبه في تورطهم من جماعات المتشددين بل جميع المغاربة، كما شمل ذلك وما يزال التضييق على ممارسة الحريات بعدم تسليم وصولات الإيداع لأنشطة بعض الجمعيات والأحزاب رغم قانونية الإجراءات ومضايقات المشتبه فيهم بمنعهم من المغادرة ومنع البعض من الوثائق الإدارية خارج دائرة القانون، ومازالت الضابطة القضائية تعمد إلى اتخاذ إجراءات غير سليمة تمس بالحريات الفردية كتغيير تواريخ الاعتقال والحراسة النظرية والتفتيش الذي لا يخضع للضوابط القانونية، إذ يقتضي الأمر إضافة توضيحات وإجراءات تضمن عدم المساس بالحقوق. إن هذه الأوضاع تستدعي اتخاذ إجراءات كفيلة لضمان الحقوق والحريات والوقوف على منتهكي الحقوق بإجراءات صارمة والمبادرة إلى: إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي إن مرحلة ما بعد 16 ماي شكلت محطة سوداء وبإجماع المنظمات الوطنية الحقوقية في انتكاس الأوضاع الحقوقية على مستوى الحريات بعدم الالتزام بمعايير المحاكمة العادلة من قبيل تجاوز مدة الحراسة النظرية وتزوير تواريخ الاعتقال والحجز في أماكن غير مؤهلة قانونا لذلك وتدهور أوضاع السجون. إن تجاوز هذه المرحلة بانعكاساتها السلبية على الوضع الحقوقي في المغرب يقتضي تفعيل العفو بالعفو الشامل على معتقلين الذين لم يثبت تورطهم في الأحداث الأليمة. وينبغي التأكيد على إطلاق سراح معتقلي الرأي لأن الاعتقالات شملت حتى من عبر بالرأي على موقف أو فكر وكانت العقوبات قاسية في حق هؤلاء مثال عبد الصمد بنعباد الطالب الجامعي بمراكش وأمثاله كثير.. ثم إن الوضع السجني الذي يغلب عليه الاكتظاظ يقتضي اتخاذ تدابير بديلة للاعتقال وإدخال أنظمة تقليص العقوبات. بالإضافة إلى ذلك لا بد من إجراءات أخرى كتعديل قانون المسطرة الجنائية بإلغاء التصنت وسحب جواز السفر وتقليص مدة الحراسة النظرية المسموح بها بمقتضى قانون الإرهاب، وإعادة النظر في هذا الأخير بتدقيق التعريفات الفضفاضة التي تحتمل التأويل وتشمل كل ما من شأنه.. كما ينبغي تعديل مضمون الفصل 41 من قانون الصحافة تعديل بما يكفل حرية الصحافة ومنع التضييق على الصحفيين. عدم الإفلات من العقاب لا يقتصر معنى هذا الإفلات على تجاوز العدالة في قضايا فردية، فهو في الواقع سرطان ينهش جسد سيادة القانون نفسه. وقد برزت خلال عام 2003 فرص جديدة لمحاربة الإفلات من العقاب وإعادة الثقة في سيادة القانون في البلدان التي تمر بخطوات التحول إلى الديمقراطية. كما يجب المصادقة وتفعيل قانون روما الذي أنشأت بموجبه المحاكم الجنائية الدولية. وفي عام 2003, حثت المنظمة دول العالم على إصدار التشريعات التنفيذية الفعالة بمقتضى قانون روما الأساسي، بما في ذلك البنود التي تمنح المحاكم المحلية اختصاصاً قضائيا شاملا بالنظر في جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، والتعذيب، والإعدام خارج نطاق القضاء، والاختفاء. إن المغرب مطلوب منه المصادقة على قانون روما وإنشاء محاكم محلية تنظر في الجرائم ذات الاختصاص للحد من أي تعسف أو شطط أو ظلم من هذا القبيل.. استقلال القضاء وفق ما أقرته الأممالمتحدة ولضمان استقلالية القضاء والسلطة القضائية لا بد من مراعاة المبادئ الأساسية التالية وهي: 1) تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد أو قوانينه، ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية. 2) تفصل السلطة القضائية في المسائل المعروضة عليها دون تحيز، على أساس الواقع وفقا للقانون ودون أي تقييدات أو تأثيرات غير سليمة أو أية إغراءات أو ضغوط أو تهديدات أو تدخلات، مباشرة كانت أو غير مباشرة، من أي جهة أو لأي سبب. 3) تكون للسلطة القضائية الولاية على جميع المسائل ذات الطابع القضائي، كما تنفرد بسلطة البت فيما إذا كانت أية مسالة معروضة عليها للفصل فيها تدخل في نطاق اختصاصها حسب التعريف الوارد في القانون أم لا. 4) لا يجوز أن تحدث أية تدخلات غير لائقة، أو لا مبرر لها، في الإجراءات القضائية، ولا تخضع الأحكام القضائية التي تصدرها المحاكم لإعادة النظر، ولا يخل هذا المبدأ بإعادة النظر القضائية أو بقيام السلطات المختصة، وفقا للقانون، بتخفيف أو تعديل الأحكام التي تصدرها السلطة القضائية. 5) لكل فرد الحق في أن يحاكم أمام المحاكم العادية أو الهيئات القضائية التي تطبق الإجراءات القانونية المقررة، ولا يجوز إنشاء هيئات قضائية لا تطبق الإجراءات القانونية المقررة حسب الأصول والخاصة بالتدابير القضائية لتنتزع الولاية القضائية التي تتمتع بها المحاكم العادية أو الهيئات القضائية. 6) يكفل مبدأ استقلال السلطة القضائية لهذه السلطة ويتطلب منها أن تضمن سير الإجراءات القضائية بعدالة، واحترام حقوق الأطراف. بالإضافة إلى توصيات الهيئة ينبغي مراعاة المبادئ والاقتراحات المذكورة حتى يرقى الإقرار المتوخى لحقوق الإنسان إلى الأهداف المنشودة من جميع الفاعلين والمهتمين والمجتمع لطي صفحة الماضي، يقتضي الأمر إقرارا فعليا وفعالا للحريات والحقوق بالمفهوم الواسع الشامل وليس الاقتصار على الحقوق السياسية والحريات الفردية والجماعية لأن مرد كل فعل أو رد فعل من تظاهر أو إضراب أو فعل احتجاجي هو انتكاس الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، فلو تمتع الكل بالحقوق المكفولة وفق المواثيق الدولية بتوفير عدالة اجتماعية وذلك بالرفع من المستوى المعيشي للفرد وتوفير جميع الحاجيات الاجتماعية والاقتصادية الضرورية من سكن لائق ومحترم وشغل قار وتعميم التعليم وتوفير الرعاية الصحية والاجتماعية لما وقع الاحتجاج ولما وقع الشطط.